حققت الرفاهية في العقود الأخيرة تقدماً نشطاً بالمقارنة مع مثيلاتها في القرون المنصرمة، ما استدعى حرمان مجموعات كبيرة من البشر منها. ولم تسمح أثمانها الباهظة إلا للقادرين على التمتع بها، مع أن غالبية شعوب البلدان المتقدمة لا تنقصها الضروريات، ولا كماليات رغد العيش، لكن الرفاهية الحديثة تمتاز بتوافر ما يفوق الكماليات المتعارف عليها؛ فالفنادق متعددة النجوم، خلفت وراءها النجوم الخمسة، بعدما أصبحت بلا سقف، والمطاعم الفخمة وما تقدمه من أطعمة محضرة من نباتات عجيبة، كذلك الرياش الفاخرة للأذواق المرهفة، والمشروبات المخصصة لأصحاب الأمزجة المتطلبة… وأشياء نادرة أسعارها فلكية.

المهم أن يشعر أصحاب الثروات الطائلة بأنهم طبقة فوق الطبقات، محدودو العدد، لا يحق للمليارات الهائلة من البشر الزاحفة على الأرض، والمتشابهين جداً، التساوي مع القلة المختارة، فلا يأكلون مثلهم، ولا يشربون مثلهم، وما يقتنونه يستحيل عليهم اقتناؤه… هذا هو التميز، ليس هبة من أحد، ثرواتهم هي الفيصل.

لا يختلف هذا القرن عن غيره في الجوهر، ولا في الشكل، فالمطلوب هو المظاهر، لا يجوز إخفاؤها، ما نفع الثراء إن لم يرَه الغير، ويُحسد أصحابه عليه، فالثراء لا يمارَس سرّاً ولا على انفراد. من هنا نشأت الحاجة إلى مجلات تعتني بتصويرهم وملاحقة أخبار بذخهم وغزواتهم الغرامية وفضائحهم… إنه مجتمع المشاهير.

” المهم أن يشعر أصحاب الثروات الطائلة بأنهم طبقة فوق الطبقات”

يضم هذا المجتمع رجال أعمال، ورياضيين، وممثلين وممثلات، وصيارفة ورجال البورصة والمضاربات المالية، ومصممي الاستعراضات الضخمة، وصانعي الموضة، والكتّاب الأكثر مبيعاً، وسياسيين فاسدين نهبوا شعوبهم… غير أن أرباب عالم الترف يتميزون بالكرم، لا يبخلون بتبرعاتهم للفقراء، وسلال الطعام للشعوب الجائعة، والدواء للبلدان التي تشكو من الأمراض المتوطنة، وتزويد جيوش تتقاتل بالسلاح، ودكتاتوريين بأدوات التعذيب.

فوارق صنعها البشر وليس الله. ولقد كان لأصحاب العقول المثقفة والذكية التفكير في تضييق الشقة بينهم. ففي القرن التاسع عشر، شهد العالم تبايناً بين الطبقات، أدى إلى صراعات بينها، تجلّى في تململ العمّال من أوضاعهم البائسة، وما أصابهم من استغلال، فانتشرت الخلايا الثورية، والمظاهرات والتمرّدات والثورات، كذلك المشانق والمقاصل والدماء. ماذا كان دور الأدب؟

كانت النصيحة للطبقات العاملة في أرجاء أوروبا، أن يقرأوا بدلاً من “يا عمال العالم اتحدوا” روايات تمنحهم الإحساس بما يفتقرون إليه، فشاركوا في حفلات الصيد، والعشاء في قصور الأمراء والنبلاء والأرستقراطيين، وارتياد صالونات الأدب، وخاضوا مغامرات غرامية مع كونتيسات جميلات، ودوقات متصابيات، ولعبوا القمار على موائد كازينوهات موناكو، وتجولوا ليلاً في حدائق فرساي برفقة حسناوات يضعن على وجوههن قناعاً يبرز سحر عيونهن. هذه المشاعر الجميلة وهبتها لهم قراءة الروايات المسلسلة في الصحف. هذا إذا كانوا يعرفون القراءة.

النعم التي أسبغها الأدب عليهم، لم تمنع الثورات الناجحة والفاشلة من الوقوع، وما خلفته وراءها من حروب ضحاياها كانت بالملايين.