لا يقتصر الفنّ على الرسم والنحت، طالما مادّته وموضوعه الأثير هو الجمال. وإذا كان جمال الطبيعة هو الأصل، فالفن محاكاتُه بأساليب شتّى وحساسيات مختلفة. يُعتبَر فنّاً كلّ ما نُحسّ فيه الجمال، كصناعة الأشياء؛ الأثاث، الديكور، ورق الجدران، الإعلانات، أغلفة الكتب، تصاميم الأواني، التصوير الفوتوغرافي، الصناعات الحرفية… وكلّ ما أصبح يقع تحت عنوان “الفنون الجميلة”، كالأشياء العابرة التي لا تتّصف بالديمومة، كالجمال الذي تفرضه الموضة، الملتصقة بكلّ ما هو جديد، وكلٌ واحدة منها تطرد ما قبلها. فبيوتات الأزياء تعتمد على تسارع الموضة وتنوّعها وتبدّلها، وتصنعها الذائقة حسب المواسم.
لم يتخصّص الفنّ بالجمال وحده، وإن كانت الرابطة بينهما قوية، لكنّها ليست دائمة ولا أكيدة، لا سيما بعدما قفز الفن إلى البشاعة، وأصبح مادة لصناعة ما يُدعى بـ”جماليات القبح”. ففي لوحات التعبيريين الألمان نشهد سويةً للتشويه لا تنضوي تحت راية الجمال، وإن ابتدعته قوّة التوصيل لدى الفنان، إذ يعكس الفساد المنتشر والمهيمن في الدولة والمجتمع.
المثال الناصع، كان في مسلسل الانحدار والتهتّك في ألمانيا بعد الهزيمة في الحرب العامة الأولى. ما اضطرّ الفنّ إلى مواكبته بإشهار الفضيحة، وذلك بإعادة إنتاج التفسّخ السائد بأشكال بشعة وألوان فاقعة، واستعراض مناخات عسكرية وبرجوازية تنحو إلى الابتذال والتفاهة. ردّت عليه النازية، ووصفت هذا النقد الفضائحي بـ”الفن المنحطّ”، بدعوى أن النازية تنشد الجمال، جمال العِرق والروح، وكان أن صنعته على نمط كان أشدّ من القبح.
يقترب الجمال من الخديعة عندما يصبح قابلاً للتحقق بالمال
يُعتبر الجمال مسألة ذاتية بحتة، على صلة بالتذوّق الشخصي، صِلتُه ضعيفة بالعقل والعقلانية، يصعب وضع تعريفٍ له، إلا إذا أخذنا بالمثال الجماليّ في اليونان، وكان تقديره حسب قاعدة جزافية: “ما هو جميل هو غالي الثمن، وما هو غير جميل ليس غاليَ الثمن”، فلم تقدم تعريفًا به، ولا كان في استعارة مفهوم العدالة تصويبًا له، في تلك الجملة التي كتبت في مدخل معبد “دلفي”: “الأكثر عدالة هو الأكثر جمالًا”.
وكان في قصْر الجمال على مجموعة قوالب وإجراءات، محاولة تجمع بين الفنّ والجمال، بتنظير يركّز على “تناسب الأجزاء”، لكنْ بقي الجدل قائمًا طوال عصر النهضة والتنوير حول عقْد رابطةٍ بين العقل والأحاسيس، الصرامة والتحرّر، مستوحاة من أعمال كبار فناني الرسم والنحت. ومع ذلك، كان الجمال عصيًا على مقاييس نهائية موحّدة. ولا يعني هذا أنه كان مطلقًا من القيود، ولا جامدًا، بل أشبه بأنّ له تحوّلات، وغير مستقرّ، ويختلف من فترة لأخرى، ومن بلد لآخر، تتبدّل وجوهه حسب متغيرات الزمن، بل يمكن تعايش عدة نماذج للجمال في فترة واحدة.
أدّى الفنّ خدماتٍ جليلة للعصر الاستهلاكي، قدّم متعة يومية في رسوم المجلات والإعلانات والقصص المصوّرة والبوسترات، المبذولة في الشوارع وعلى الجدران، والتي نحَتْ بالذائقة إلى الخفّة، وجرى توظيفها لإثارة المشاعر والتحريض على استحواذ الأشياء، والرغبة في تملّكها. ما قاد إلى نشوء “جماليات الاستهلاك”، الأمر الذي يعزّز فكرة الجمال كخديعة، عندما ينطوي على رغبة قابلة للتحقّق بالمال، أو الإحساس بالحرمان لعدم توافر القدرة الشرائية، ما يصوّر نوعين من الناس، الذين يستهلكون بإفراط، والمحرومين من الاستهلاك.
علاقة الجمال بالعقلانية واهية، بينما علاقته باللاعقلانية أمتن، بما ينطوي عليه من أسرار تتجدّد، وتتحوّل من عصر لعصر جرّاء اقتحاماته الشكلانية، تلوح من فرط جرأتها، وكأنّ كلّ فاصل منها يرسل ما قبله إلى الموت/ لكنها الحياة في المتاحف، إذ هناك ما يربط بين الجمال والموت، كعنصرين متناقضين. وحسب فيكتور هيغو، كلاهما يمتلك “العمق اللامتناهي” وكلاهما في حقيقته المستعصية “مخيف”، فهما يمتلكان فائضًا من الخصوبة جرّاء قدرتهما في ما يبعثانه في النفس من غموض، وفي إخفائهما لِلُغزِهما وأسرارهما.
-
المصدر :
- العربي الجديد