لم ينجح “الجهاد” في تحقيق مساعيه، ومثلما وجد تقبلًا كبيرا وجد ممانعة قوية. إذ ليس هناك جهاد حر طليق، سرعان ما يجري الانقضاض عليه ويتحول إلى إرهاب. الجواب على هذه المعضلة ليس صعبا، عندما تشتبك دعاوى الجهاد مع السياسة لا يعود يملك أموره، ويأخذ أشكالا متنوعة. ومهما كان نوع الإرهاب دينيًا أو سياسيا فهو خاسر دوما.

الإرهاب الوحيد الناجح الذي يصل إلى أهدافه هو إرهاب الدولة، فهو منظم وموجه وممول ومجهز بآليات يجري تحديثها على الدوام، سواء عندما كان يسير على هدي خبرات الدول الاشتراكية الشرقية سابقا، أو خبرات غربية لاحقا، أضيف إليها الروسية من جديد مع ظهور بوتين على قمة السلطة. هذه الدول تزود الأنظمة بالخبرات المتطورة المضادة للجهاد، تمليها أواصر الصداقة الوثيقة والقديمة مع العسكر، كانت الداعم لهم في الاستيلاء على السلطة بالقوة، وممارسة القتل تحت شعارات التقدم والعلمانية.

ليست هناك معجزة في تحول الجهاد البريء إلى إرهاب محض، فالعنف يستجر العنف، والوحشية تستجر الوحشية، إنه صراع بين متوحشين، ودائما ما حاول الجهاديون ألا يقل توحشهم عن أجهزة المخابرات، بل وتفوقوا عليهم بتصوير الإعدامات وعرضها، سرعان ما جاراه النظام في الحرب السورية باستعمال هذا الأسلوب لإرهاب المحتجين والثائرين والأهالي.

لم يعد الجهاد إلا ذريعة فقهية، تفقد دلالاتها على الأرض، في تجاوزاتها على الشريعة، والتلاعب بها تفسيرا وتأويلا. فإذا أردنا التكلم عن الإرهاب، فهو صناعة محلية، يولد في بيئات هامشية فقيرة ومحرومة صالحة لتوليد النقمة والشعور بالغبن والاضطهاد، تستثمره فئات طامحة إلى السلطة بدعوى التغيير ودائما إلى مجتمع مثالي.

الإرهاب الوحيد الناجح الذي يصل إلى أهدافه هو إرهاب الدولة، فهو منظم وموجه وممول ومجهز بآليات يجري تحديثها على الدوام

تضع الدولة البوليسية الإرهاب تحت الرقابة، تخترقه وتجيره لمصالحها المتعددة، تستخدمه باستثمار صلاتها السرية بالخلايا الإرهابية، وقد تصنعها أو تساهم في صنعها، والتمدد إلى الخارج بإنشاء شبكة من العملاء متوزعة في دول الجوار الإقليمية وبلدان العالم المؤثرة، بهدف التغلغل في الخلايا الجهادية المنتشرة في العالم، وإنشاء خلايا داخل الخلايا، وتخزين إرهابيين في السجون لزوم الحاجة.

أكثر من استخدم هذا الأسلوب هو النظام السوري، حصل ذلك خلال الغزو الأميركي في العراق، شجع على تجنيد الشبان بدعوى مقاومة الاحتلال، وذلك لإحباط الخطط الأميركية في التفكير بالقفز إلى سوريا وإسقاط النظام عسكريا. عند عودة ما بقي من المتطوعين اعتقلهم النظام في السجون رهينة لإحباط الثورة فيما بعد.

انطلاق الإرهاب في العالم، منح الإرهابيين الثقة بأنفسهم، فاعتقدوا أن انتصاراتهم من فيض قواهم الذاتية، بينما كان هناك من يفتح لهم المسالك ويورطهم في عمليات مكشوفة، ويتلاعب بهم عن بعد، فلا يدري الإرهابي أنه يتحرك بالريموت كونترول المخابراتي؛ يُفجر ويتفجر، يفخخ ويتفخخ. يتوحش الإرهاب وإذا لم يتوحش يساعدونه على التوحش… إنه ليخيف البشر، ودائما ينجح ويبث الرعب. وعندما تنتهي صلاحيته يعدم من دون محاكمة، لديهم اعترافاته، فيصعد سعيدا إلى بارئه، بينما على الأرض فكأنه ما كان، رغم أن صحيفة أعماله في المخابرات.

المخابرات عماد الدول البوليسية، لا يمكن للدول الدكتاتورية الاستبدادية الاستمرار في القمع إلا من خلال جهاز أمني حديدي، يحميها ويحافظ على بقائها. ما جعل الواقع يفرض نفسه، لم يعد الرئيس يأتي من الانتخابات الحزبية ولا الشعبية. الواقع سنّ تقليدا عمليا، بات الرئيس يأتي من صفوف المخابرات، كما بوتين في روسيا والسيسي في مصر. إذا لم يأت من دهاليز المخابرات، فالمعروف أنه يأتي بتوافق بين ضباط الجيش، ويتولى ضباط المخابرات تأهيله للرئاسة بإخضاعه لدورات تدريبية مخابراتية، إدارة الدولة ليست بحاجة إلى قوانين، وإنما إلى خبرات مخابراتية. وإذا كان هناك جهاز ينبغي السيطرة عليه فهو جهاز المخابرات، به يبقى الرئيس أو يزول، يُرَحّل أو يقتل أو يستمر.

في هذا العالم، لا يمكن احتكار الإرهاب، فهو مشاع للجميع، مفتوح للاستخدام في أجندة خارجية وداخلية في كل دولة، حتى الغرب الديمقراطي يستغله بالدعاية في الانتخابات ومزاودات الأحزاب المحافظة والعنصرية، وفي لجوء أجهزة مخابراتها العريقة إلى التعامل مع الأنظمة الدكتاتورية، ولو كانت على خلاف معها، من خلال قنوات سرية، يثقون بالمخابرات لا بالسياسيين المعارضين، حسب اعتقاد راسخ؛ هو أن الشعوب اخترقها الإسلام السياسي، بالتالي لو لم يكن للإسلام السياسي وجود، فسوف يسعون لإيجاده، لا بد من عدو مشترك للأنظمة المستبدة والحكومات الغربية، يعملون على التحكم فيه لا القضاء عليه، إنه خزان حروبهم وبقائهم.

ما يجري بالفعل تلاقي مصالح، يرقى إلى نظرية المؤامرة التي نُتعب أنفسنا في نفيها دائماً، ورغم ما في رد الصراعات إلى المؤامرة من تزيّد مفضوح، لكن في نفيها انتقاص من الحقيقة.