تبدو حركة التاريخ في عرف أصحاب نظرية المؤامرة، سلسلة من المؤامرات، تبدأ بقصة التفاحة والحية على أنها مؤامرة حاكها الشيطان لطرد آدم وحواء من الجنة، أي لا علاقة لها بإعمار كوكب الأرض بالبشر، وامتحانهم بقصة الخير والشر، وربما هذه مؤامرة أيضًا، فكيف نحاسب على شرٍ نحن مدفوعون إليه، وعقاب على ذنب لم نرتكبه إلا مسيرين، وفي ما لو تتبعنا هذا المنطق فسوف يسهل تفسير كل شيء بالمؤامرة من الانشقاقات الكنسية المسيحية إلى تعدد المذاهب الإسلامية، دونما استثناء الاغتيالات على مرّ التاريخ من اغتيال هابيل إلى اغتيال كيندي وما بينهما، إضافة إلى سلسلة الاغتيالات الضاربة في العالم حتى الآن. هذا عدا الثورة البلشفية وتفجير القاعدة لبرج التجارة، وانتشار كوفيد… حلقات لا تنتهي، الواحدة تقودنا إلى الأخرى، وتبرهن عليها من دون برهان.
تحيلنا دائما إلى مقولة “ابحث عن المؤامرة” لتفسير ما يحدث أو يفاجئنا ونحن في غفلة عنه، ما يعفينا من المسؤولية والشعور بالذنب جراء فشلنا، وإذا كان لنا نصيب منه، فحصتنا عدم العلم به. ما يوفر الكثير من التفكير وإعمال العقل، بحيث يؤدي الاعتقاد بها إلى مؤامرة حقيقية على العقل، لا تقل عن تعطيله أو الغائه، ما الحاجة إليه، ما دام هناك دول ومنظمات، وربما جماعات سرية تحت الأرض، غير معروفة ولا منظورة تتحكم بالعالم، تبدأ بالماسونية ولا تنتهي بالمافيا، وما بينهما من صيارفة جشعين، وعلماء مخبولين، ومليارديرية طموحين، وسياسيين مهووسين، وزعماء لا يخفون جنون العظمة، وعصابات تعمل على تخدير العالم؟
يكمن الخطر في نسب الكثير من الحوادث إلى أنها فعل مؤامرة ومتآمرين، وجعلها تشمل السياسات والأديان والثورات والمتغيرات وسقوط الحضارات وانحطاطها. ومثال لا يني يتردد بين فترة وأخرى، الاعتقاد بأن الإسلام مهدد من الاستشراق باعتباره تآمر مستشرقين يعملون لحساب جهات استعمارية، اتهام لا يخلو من مبالغة، وعدم العرفان بالجميل نحو كثير من المستشرقين كرسوا حياتهم وجهودهم للكشف عن التراث العربي والإسلامي، حافظوا عليه وأخرجوه من النسيان والغبار، وكانوا غيارى عليه، ولا يقلل من جهودهم وجود استشراق استفاد منه الاستعمار، ما برر الغزو تحت عناوين حضارية. وهذا لا ينفي أيضا وجود عداء ضد الإسلام، كانتشار شائعات تتقصد الإساءة إليه، بالزعم بين فترة وأخرى عن مؤامرة ترمي إلى أسلمة أوربا، وكان لموجات الهجرة مؤخرًا نصيب كبير من هذه الادعاءات، استخدمته أحزاب يمينية متطرفة خلال الدعايات الانتخابية بزعم بوجود مؤامرة إسلامية تواكب تدفق اللاجئين، تستغل ارتفاع نسبة توالد المسلمين مع انخفاض توالد الأوربيين.
هذه النظرية، وجدت في الإرهاب مع تتالي العمليات الإرهابية في العالم، بؤرة صالحة للاستثمار، واعتباره عمل خلايا إسلامية عابرة للدول والقارات تهدف لإثارة القلاقل وتمرير مخططات، بينما الإرهاب ليس ظاهرة واحدة تخص الإسلام، ولا فريدة، بل ظواهر متعددة لم تنجو منه حضارة ولا دولة، يمكن دراستها، لكن ما يجري في مواجهتها لا يقل عن مؤامرة تشارك فيها أطراف متعددة، ولكل منها غاية، وذلك بالنظر إلى أي حادثة إرهابية، من خلال التركيز على همجية الفعل نفسه، من دون التعرض إلى الأسباب، مع أن الفعل لا ينفصل عن السبب، نعم الفعل مدان، لكن ماذا عن السبب؟ لا لشيء، بل لمنع حدوث ما يماثله في المستقبل.
ازاء هذا الانكباب على تجريم الإرهاب وتحويله إلى مؤامرة مستمرة كأنما إلى لا نهاية، بينما هو قضية كبرى لها أبعادها المأساوية، لا يصح استثمارها تحت عناوين غامضة تلبي غايات سياسية. في هذا الخلط، تضيع مؤامرات حقيقية، لخطأ في التوصيف، وكأنها من طبيعة الأمور، أو انها مجرد خطأ، أو خلل نفسي، أو كما يشاع اليوم بأننا السبب في اخفاق الثورة، لمجرد تقاعس المعارضة، أي أننا تآمرنا على أنفسنا، وهذا له نصيب لا يستهان من الصحة، لكن يغفلون النظام وروسيا وإيران وداعش والفصائل ودول الجوار في المنطقة، لكنهم يبتكرون تعبير “المؤامرة الكونية” ويتبدى سخف هذا الادعاء، بوقوف العالم كله ضد الثورة السورية واستهانته بالضحايا.
تشهد المؤامرة اقبالا من الناس، يتجلى في سرعة انتشارها، ولا عجب، إنها موضوع صالح للإثارة، يُسهّل على الناس تفسير الكثير من الخفاء، ولو كان بخفاء أكبر، فيحال إليه، كما أن الايمان بوجودها، لما تثيره من قلق وعدم يقين، مع الاستمتاع بتناقلها واللغو فيها. لهذا تشكل معينا لا ينضب للسينما والمسلسلات التلفزيونية وكتب المغامرات. من جانب آخر، تبدو وكأنها تلبي حاجة الإنسان إلى المعرفة، لكن اشكاليتها في انعدام صلاحيتها للانتقال إلى الواقع، فالصلة بينهما منقطعة. إن الضرر الحاصل في حال الاعتقاد بها، هو تزييف المشكلة والوقائع والحل.
أما المأزق فعلا، فليس إلا أن طلب المعرفة يتلخص بـ”ابحث عن المؤامرة”.
-
المصدر :
- الناس نيوز