ثمّة ملاحظة للروائي الفرنسي ستاندال، صاحب “الأحمر والأسود”، سنستشهد بها في معرض علاقة السياسة بالأدب، يقول فيها: “السياسة في عمل أدبي مثل طلقة المُسدَّس وسط حفل موسيقي، عالية الصوت وسُوقِيّة إلى حدٍّ ما، لكنّها شيءٌ غير مُمكِنٍ رفضُه لجذب الانتباه”.
كما يبدو، يُفضِّل الكثير من الأدباء والنقّاد، عدمَ الضغط على الزِّناد، كي لا تشوّش على انسيابية الموسيقى، وهكذا تمضي الحفلة بسلام. وإذا كان لا بدَّ من الطلقة، فباستعمالِ كاتم للصوت، أي كأنّ الطلَقة لم تُطلَق ولم تُسمَع، فتؤدّي الغرض منها من دون إحداث شوشرة. ببساطة لئلّا نعقِّد الموضوع، طالما سيتمّ تجاهُل الرصاصة، فما نرغب في التنبيه إليه يضيع في الخفاء
.
يأخذنا الحفل الموسيقي إلى رقصة فالس في القرن السابع عشر أو الثامن عشر، ولنتصوَّر أزياء ذلك الزمن الفخمة للنساء والرجال كما نراها في الأفلام، بينما في عصرنا لا تُحيلنا إلى رقصة تانغو، بقدر ما تذهب بنا إلى حفلة رقص تعجُّ بالضوضاء أكثر من الموسيقى. لن تنفع الرصاصة، ما دام الضجيج كفيلاً بعدَمِ سماع شيءٍ غير جلَبة الراقصين.
لنعُد إلى الحفل الموسيقي الذي أشار إليه ستاندال؛ فهناك طلقةٌ ومسدّس، وربّما سقط أحدٌ ما صريعاً، قد يكون اغتيالاً، والضحية رجل أو امرأة، مَن هذا الرجل أو هذه المرأة؟ لا ضرورة للتعرُّف عليهما، لئلّا تُفسد الحادثة بهجة الحفل الموسيقي والرقص المُمتِع، جرّاء تدخُّل رجال الشرطة. كما أنّ طبيعة الحفلة تستدعي التذكير، في مثل هذه المناسبة، بما يسبقُها من استعداد لمواعيد غرامية، أصحابُها عشّاق متلهّفون بانتظار قدوم محبوباتهم، وخلال الحفل، تتبادل العيون رسائل الشوق، والابتسامات الساحرة والمشاعر اللطيفة. أمّا في عصرنا، فالرقص يُبيح التقارُب وتبادُل الهمَسات والكلام، وما يزيد عن العناق. مع هذا، طلقةُ المسدّس قد تعطِّل أجمل لحظات الغرام، فما المُبرِّر لإدراجها في الحفل؟ البرنامج يخلو منها.
حسناً لنعُد إلى ستاندال، لا بدّ من التنويه بأنّ الحفل يدور في قصر، أو في أحد صالونات العائلات الأرستقراطية، ما يجعل من المُسدَّس اختراقاً فظّاً، يبثُّ الذُّعر بين الموجودين وتدافُعهم نحو الأبواب للخروج. أمّا إذا كان في مرابع الليل، أو في الهواء الطَّلْق بحضور جمهور غفير، فلن يُثير شيئاً إذ لن يُسمَع، حتى لو كان المُسدَّس مدفعاً، والرصاصة قذيفة، فالجميع غارقون في نشوة الموسيقى والكحول والمخدِّرات.
تجاهُل مقصود لآلام الناس بدعوى الابتعاد عن المباشرة
هذا كلّه يحدُث فوق الأرض، أو كان المربع الليلي في قَبْوٍ بالأزقّة الخلفية. مع هذا، يجب حسبما نعرف في زماننا، مثلما في أغلب الأزمنة التي لم نعشها، أنه تحت الأرض هُناك سجونٌ وأقبية للتعذيب حتى الموت، وهُناك مَن يصرخ من شدَّة الألَم لا يطلُب أكثر من الرحمة، وهُناك مَن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهُناك أيضاً من لا يُكتفى بضربه ورفسه، سيخلعون له أظافره وقد يُشوَى باستعمال أسياخ مُحمَّاة، وربّما وجود طفل يبكي في مكان لا شفقة فيه حتى على الأطفال، ولا يُمكن استبعاد وجود امرأة تُغتصَب… فهل نتخيَّل أنّ ما يحدُث تحت الأرض يُقلق أو يُزعج ما يجري فوق الأرض.
ثم إنّ هذه الحفلات التي تقتصر على مدعوِّين مُعتبرين؛ من طُغاةٍ ومُستبدّين، ومُجرمين ولصوص وشبّيحة وضباط انقلابيّين وأثرياء حرب، هؤلاء يُزعجهم أن تعطِّل رصاصةٌ صفقةً تُعقَد، وربّما مؤامرة تُدبَّر في أجواء عابثة… لماذا؟ قد يكون مسدّس مُسدَّداً إليهم.
تُتّهم الرواية بأنها تُمارس السياسة، أو تتعدّى عليها، بخاصة إذا كانت الرصاصة تجذب الاهتمام إلى السجون والمنافي والتهجير، ولو أنّها لم تغفل الحبَّ والموسيقى ولغة العيون والرقص والجمال. السبب لئلّا تتطرَّق الروايات إلى العدالة… وكأنّ طلقة المُسدّس تنحو إلى تخريب هذا الجمال، مع أنها تنبِّه إلى أنّ هناك جريمة يقترفها مجرمون، وما الرواية سوى عدم إغفال هذه البشاعة.
لا ندري لماذا يُقال عن هذه سياسة، بينما هي آلام البشر، صحيحٌ أنهم قد يكونون الآخَرين، لكن في النهاية، الآخَرون هُم نحن أيضاً. قبل أن نستطرد هُناك مَن يتجاهل هذه الآلام، عندما يُجري تعمية على مُرتكبِي هذه الجرائم، ومُباركة القتَلة. بدعوى ابتعادهم عن المُباشرة، وذلك بإغفال المُجرِم، وطَمْس الجريمة.
-
المصدر :
- العربي الجديد