العالم في تقدُّم، وفي شتّى أنواع المعرفة، إضافة إلى التكنولوجيا الصاعدة المتطوّرة على الدوام، حتى إنّنا مقصّرون في ملاحقة منجزاتها التي أصبحت تعادل الخيال وتتفوّق عليه. فلننظُر إلى الخلف، إلى ذلك الإنسان البدائي الذي كُنّاه، بما يحمله من فكر، تُمكن دعوته بالفكر ما قبل المنطقي، كم بعدت الشقّة بيننا، نحن الذين أصبحنا نمثّل الإنسان المعاصر! ذاك عالم كان يغصّ بالخرافات، حاول الإنسان ما قبل المنطقي تفسيره بأساطير جميلة، لا تزيد عن حكايات مسلّية؛ ولم يصل إلى هذه العصور المعقلنة إلّا بعدما اجتازت البشرية عهوداً لا تخلو من معتقدات تبدو لنا الآن ركيكة وهزيلة.

ماذا عن الأرض المسطّحة، التي تبدو شعوذة مارقة، وغيرها كثير؟ لا سيّما أنه كان يعاقب من ينتقدها بأشدّ العقوبات، بلغت ذروتها في محاكم التفتيش وحرق الساحرات، ومحاكمة الفكر والأفكار ومطاردة المفكّرين. هذه عهود مضت إلى غير رجعة، وهو صحيح إلى حدّ ما، وقد تُستعاد. لكنْ حالياً، الفضل للتقدّم الاجتماعي الذي من المفترض أن يؤدّيَ إلى انسحاب الفكر غير المنطقي وما يصاحبه من تطرُّف.

في الوقت نفسه، لماذا لم يختفِ في عصرنا التفكير غير العقلاني، رغمَ انتشار المعرفة وتطوُّر العلم والتكنولوجيا، ما دام المنطق العقلاني هو المسيطر؟ ألا يُمكننا اعتبار التطرُّف في انتفاء المنطق الصحيح مرضاً يمتّ للماضي أكثر من الحاضر؟ لا يمكن تجاوز هذه التساؤلات، ما دام التطرّف يجد مجالاً رحباً في مجتمعات تدفع الناس إلى الاعتقاد بأفكار قد تؤدّي بهم إلى أفعال جنونيّة.

يكتسي التطرُّف بالغموض لأنّ مصالح دول كثيرة مرتبطةٌ به

عادة لا نجد صعوبة في ردّ التطرّف إلى تفسير شائع، وهو أنّ الفقر والجهل هما المناخ الصالح لإنتاج المتطرّفين في مجتمعات متخلّفة. فالفقر أرض خصبة لتفشّيه، وبتآزره مع الجهل، ينتج بشراً ليسوا أقلّ من مجرمين، بمعتقداتهم غير العقلانيّة، وبالمقارنة مع سَليمي العقل، يبدو كأنّهم تعرّضوا إلى عمليّات غسل دماغ.

المستغرَب أنّ التطرُّف يَشمل أيضاً المجتمعات الغربية التي لا تعاني من الفقر والجهل. هل حماقاتهم من نوع متحضّر، إذ يمكن أن تُنسب إلى الحرمان الاجتماعي والعاطفي في حضارة يشعر الإنسان بضآلته فيها، وهي من الأسباب التي لا شائبة حولها ما دام ملايين البشر ابتُلوا بها، لكنّها غير كافية، ما دام أغلب البشر يعانون منها، لكن ماذا لو كانت تدفع إلى أفعال متطرّفة في وحشيتها؟ ربما كانت طفرات، يمكن ردُّها إلى رواسب من عهود سحيقة، لا يمكن تفسيرها، فنُسبت هذه الانحرافات، التي تملأ عناوينها الصحف العالميّة، يومياً، إلى الجنون، أسهمت بها وسائل الإعلام باعتبار هؤلاء المتطرّفين أشخاصاً غير عقلانيّين، وصلوا إلى ما هم عليه بسبب تدنّي مستواهم التعليمي، وانسداد آفاقهم الاقتصادية.

وهكذا جرى الفصل بين المجتمعات المتخلّفة والمتقدّمة، فكان تطرّف التخلّف سببه الفقر والجهل، عطفاً على التديّن الذي يقدّم حلّاً بالانتحار، بينما المجتمعات المتقدّمة تعاني من تطرّف عارض، ليس الجهل، وإنما “تدني المستوى التعليمي”، ولا الفقر وإنّما “انسداد الأفق الاقتصادي”، أمّا عن تطرّفهم اللّاعقلاني، فيُشتبه بأنّه حرمان عاطفي نشأ غالباً في مرحلة الطفولة.

من حسن الحظ أنّ بعض الدراسات، التي تتخفّى عليها وسائل الإعلام، تنهي هذه الأساطير التي يتعيّش عليها محلّلون سياسيّون وصحافة الفضائح، وأجهزة حكومية. تبرهن أنّ المتطرّفين ليسوا مجانين، ولا مرضى عقليّاً، أو كائنات غير عقلانيّة، بل في الغالب، كما لوحظ عن أصحاب الفكر المتطرّف، أنهم على مستوى معقول من التعليم. إذ غالباً ما يحملون أفكاراً منتشرة عند شريحة منحدرة من أوساط اجتماعيّة متعلّمة، لا تعاني بشكل كبير من الفقر، مجرّد أناس عاديّين، ليسوا منعزلين عن مجتمعاتهم، ولا جهلة، بل منطقيّون بقدر معارفهم وثقافتهم. أمّا عن أفكارهم التي تكمن وراء حماقاتهم، فالتقدّم العلمي والمعرفي لم يؤدّ إلى اختفاء معتقدات تافهة وسخيفة، وكذلك عقد نفسية تثير جنوناً نوعيّاً كامناً، ما يحيلها فجأة إلى جرائم في منتهى الغرابة من شدّة وحشيّتها.

أمّا المتطرفون المتأسلمون، فيُلاحظ أنّ زعماءهم ومنظّريهم وقادتهم، كابن لادن والظواهري وكثيرين غيرهم من الدعاة إلى الجهاد، من بيئات متعلّمة وثريّة. ومن فرط التزامهم بأفكار دينيّة راديكاليّة، كان استعدادُهم للتضحية بأثمن ما لديهم من مال ومركز ومكانة ووظيفة، خاصة حياتهم. بل يُقنعون أتباعهم بإلقاء حيواتهم إلى التهلُكة، بدفع من أفكار تؤدي بهم إلى عمليات انتحارية. ومن الغرابة أنّ التطرّف المتأسلم تأسّس على دين يُنكر الانتحار، ومع هذا ينتحرون نتيجة اعتقاد جازم بصحّة ما يضحّون من أجله، فترى إلى أيّ حدّ يجرى التلاعب بتفسير الدين على غير ما هو عليه. كما لا يُستبعد أيضاً أن تكون التضحية بالنفس بدافع اليأس من عالم ظالم لا يُرتجى منه شيءٌ إلا المزيد من الظلم. ما زال التطرّف بقعة مجهولة، وإذا اكتسى بالغموض، فلأنّ مصالح الكثير من الدول مرتبطة به.