لم يكف الأدب، كما هو مفترض، عن إبداء نواياه الطيبة نحو السلام والوئام، فكان غالباً إلى جانب الخير في صراعه مع الشر. وحتى لا نتفاءل أو نبالغ كثيراً، الأدب يتكيّف مع زمانه ومكانه؛ ما يخضعه للأيديولوجيات السائدة المتقاتلة على الأرض وفي رحاب الأفكار. لذلك لم يكن الأدب دائماً داعية ضد الحرب. كان منساقاً إلى تناقضات السياسة وصراعاتها، وإن كانت ساحات المعارك مختلفة.

روايات الحرب والعنف والتعذيب والسجون جعلت عواطف القراء تنتفض غضباً وألماً، من هول ما أفلحت في كشفه وإدانته ببراعة تجلّت في فضح تفاصيله الوحشية والمريرة. لكنها لم تؤثر في سياسيّي الحكومات وعسكريّي الحروب، مع أنهم الأولى بالاستماع إلى ما أحرزته إنجازاتهم من مآس، لم تثر لديهم الشعور بالذنب والمسؤولية تجاه البشر.

طوال فترة الحرب الباردة التي امتدت نحو نصف قرن، عاش العالم على صيحات التهديد بالدمار؛ ما أوقف البشرية على حافة الإفناء، تحت زعم تحقيق السعادة لسكان النصف الآخر من الكرة الأرضية، ولولا توازن الرعب لما تأخّرت إحدى الكتلتين عن الفتك بالأخرى.

نشط الأدب في مجال الأيديولوجيات المتحاربة؛ ما شجع أدباء الكتلة الشرقية على الدعوة إلى سحق الإمبرياليين، وبالمثل حرّض أدباء “العالم الحر” على استئصال الشيوعيين. في أميركا، طاردت المكارثية الأدباء المتعاطفين مع الماركسية، على أنهم عملاء لدولة شريرة، فلم توفر شابلن وبريشت وغيرهم من المثقفين اليساريين من التحقيق والطرد والعزل.

“لم تتعلم البشرية من التاريخ ولا من الحروب”

كانت الحكومات المستفيد الأوحد من الأدب المصنوع للقضاء على نصف البشرية. اليوم لا نرى أي حضور لهذا الأدب، إلا كمثال على الانصياع الأعمى للتنافس على الإبادة. ولقد انسحب تصنيف الأدباء مع أو ضد الحرب، إلى وصف الأدب بالشرّير أو الخيّر، ما ربط الأدب بزمانه الأيديولوجي، وأثبت أن الأدباء مسيرون، ويفتقدون للرؤية الإنسانية المشتركة والجامعة للبشرية.

مع انهيار جدار برلين، احتاج الغرب المنتصر إلى عدو، فكان الإسلام المختلف في العقيدة الدينية. سرعان ما أسهمت خلايا الأيديولوجيات الدينية النائمة في النفوس بإعطاء المشروعية بالقضاء على المسلمين.

في القرون الماضية، كبّد التفسير المتطرف للمذاهب الدينية ملايين الضحايا. هذا الجرح نزف من جديد، فالكراهية تعيد الكرّة وتستغل الدين باستخدامه سلاحاً لإزهاق الأرواح تصفيةً لحسابات دنيوية. البشرية لم تتعلم لا من التاريخ ولا من الحروب ولا من الأديان ما يساعدها على تخطّي الماضي الأليم.

يطمح الأدب، ولو من دون آمال كبيرة، إلى بناء قاعدة للضمير في قلوب البشر لا سيما صانعي الحروب ومروّجي العنصرية، وأعداء التعايش الإنساني، لكنه لم يفلح في اختراق الأحقاد المتراكمة. هل سيعيد التاريخ حماقاته الدموية وينصاع الأدب لأيديولوجيات الكراهية؟ إن كان لدى الأدباء حس إنساني وقانوني -وهما من عناصر السياسة الحقة- فلن يشاركوا المهووسين دعاواهم.

الأدب بالضرورة مسيّس، وبالضرورة بلا أيديولوجيا؛ وبالضرورة لا يرتهن إلا للضمير.