حالة غليان تعصف بالعالم، ليس في الأخبار فقط، بل في أرجاء الكوكب، فالاستعدادات الروسية لاستئناف الحرب ما زالت قائمة، وما مضى منها كان مجرد تدريب قاس ووحشي على التدمير. الجولة القادمة آتية، وعلى وشك البدء، والتحول إلى حرب قد تكون طويلة، ترافقها حرب أميركية ساخنة من دون صدامات على الأرض، مع حصار على روسيا ذي طابع اقتصادي وإعلامي. والاستعدادات للدورة الثانية من الانتخابات الفرنسية بين ماكرون ولوبين على قدم وساق، والمفاوضات الأميركية الإيرانية بشأن الاتفاقية النووية تجري خلف الأبواب الموصدة، بينما أوروبا المنقسمة حائرة بين هذه الملفات وغيرها.
العالم الذي ليس بخير، يبدو أنه مع العرب بألف خير، فلا شأن لهم، أعلنوا الحياد، لا طاقة لهم على اتخاذ موقف ضد بوتين، يخشون من اندلاع قلاقل أو انقضاض صاروخ أو طائرة مسيرة. بالرغم من هذه المخاوف، السعودية مشغولة بالترفيه عن شعبها. مثلما لم ينقسم العرب حول التطبيع مع الإسرائيليين، اختاروا ألا يعلموا، مع أن أصوات المطبعين تضج عالية فرحاً، يحتفون بخطواتهم المتسارعة نحو الإسرائيليين، وكأنهم يسابقون الريح، والتصريح بأنهم كانوا على خطأ طوال العقود الماضية، والاعتذار عن الماضي من إسرائيل الصديق الوفي. بينما تموج فلسطين بانتفاضات فردية مؤثرة، تعبر عن غضب جماعي.
انعكست الحرب الأوكرانية على العرب بالتقارب بين بلدانهم، وليس دليل صحة، إنه دليل خوف من عاصفة قد تجتاحهم في خضم الحرب الأوكرانية التي لا تقيم وزنا لأي شيء عداها. عندئذ من يلتفت للعرب خاصة أنهم يريدون النأي بأنفسهم عن هذا الصراع العالمي، وهم في هذا على حق، إذ لا سياسة لديهم ولا موقف، مع أن الحياد سياسة وموقف، مجرد أنهم يريدون النجاة بأنفسهم، فالدول الكبرى لا يؤمن لها، ماذا لو تحققت طموحات بوتين، أو لم تتحقق؟ سرعان ما يجد الروس والأميركيون ترتيباً لما بعد، يتوافقون عليه، لديهم أسبابهم ومصالحهم، وسوف تكون حرصاً على السلام في العالم، فالكبار أوقح من يكذبون. بينما تحاسب البلدان التي على الهامش على مواقفها المتخاذلة سواء من الأميركيين أو الروس. القادة العرب يفكرون على الوجه الصحيح.
أما سوريا، فلها خصوصيتها من فرط تجاهل مأساتها، القضية السورية خارج اهتمامات العالم، راسخة لا تتحرك، فلا الحركة الإصلاحية داخل الائتلاف أضافت أو أنقصت شيئا، ولا جدوى من انتظار النتائج، ولا إلى ماذا ستفضي؟ وفي هذا أمر يطول، فالائتلاف رهين الدول الحاضنة له. بينما باقي المناطق السورية ترزح تحت وطأة مشكلاتها، كذلك المناطق الواقعة تحت هيمنة النظام، تعاني من شقاء شامل، فالحالة المعيشية في انحدار، ولا حل في الأفق، سوى محاولات النظام ملاحقة اللصوص الكبار الذين خرجوا من عباءته، وأرادوا الاستئثار بالغنائم، بينما حان وقت مقاسمتهم عليها. أما الشعب فتشليحه من لقمة عيشه، يكفله الغلاء ودوريات التموين والجمارك والضرائب المسعورة.
ما يُرجى من الخارج، أن تحرك الحرب في أوكرانيا القضية السورية، لكن في أي اتجاه؟ ربما في النظر بعين الجد إلى المظلومية السورية، ما دام شهر من الحرب الأوكرانية جعلت ضمير العالم يهتز، والتأسف عما طاول سوريا من تجارب السلاح الروسي على الأهالي والمستشفيات والأفران والأسواق.
العالم الأعمى قد أبصر، لكن لا نتفاءل، قد يصاب بالعمى ثانية. على كل حال، هناك دعوات في الغرب إلى التعامل مع القضية السورية أسوة بالأوكرانية، إذ من المهين للديمقراطيات التمييز في المساعدات والدعم العسكري واللاجئين، على أساس الشعر الأشقر والعيون الزرقاء، إنها قضية حريات. فسوريا تحت وطأة الخراب تعاني منذ أكثر من عشر سنوات من نظام دكتاتوري، مدعوماً من ملالي إيران والانتداب الروسي، تحت أنظار غربٍ غض النظر عن الميليشيات الإيرانية، ومنح الإذن للروس بالدخول إلى سوريا في مهمة أصبحت بلا نهاية، لم تكن سوى التدرج نحو احتلال كامل.
اليوم، تتذكر أميركا أن النظام لم يتخل عن سلاحه الكيماوي، فالكمية الباقية تعادل الثلث، ويعمل على تطوير صناعة أسلحة الدمار الشامل، برعاية إيران وكوريا الشمالية. بعدما أصبح النظام ذراع روسيا في الشرق الأوسط، وإذا أراد الغرب تحقيق انتصار حقيقي فعليه إعادة النظر بهذه الذراع، التي ارتدت عليه، وأصبحت قاعدة عسكرية ضده، ومصدراً لتوريد المرتزقة بأسعار بخسة.
وهكذا شكلت سوريا صفقة خاسرة لأميركا بالذات، بعدما ذهب بها الظن أنها ستصبح ساحة لاستنزاف روسيا، ومستنقعا تغرق فيه، ومقبرة له، هذا ما كان الأميركيون يروجون له، بينما كانت حربا وقودها السوريون أنفسهم تدور على أراضيهم، والذريعة أنها ضد إرهاب ينال العالم كله، بينما كانوا يستثمرونه. ما يعيد إلى الأذهان أنهم استطاعوا تطويقه في سوريا، مثلما يجري تطويق الحرب في أوكرانيا، المهم أنها بعيدة عن أوروبا، والأوكرانيون يقاتلون الروس لحساب الغرب. هكذا يدار الصراع مع روسيا.
يقترح بعض المحللين، الاستفادة من التجربة السورية، وعدم خوض الحرب في أوكرانيا على أمل استنزاف روسيا على المدى الطويل، لن تنجح إن لم تستهدف قواعدها في سوريا، فالتحرك على عدة أصعدة، يجعل روسيا تخسر أوراقها، ما يهددها بالهزيمة على المدى القصير، وذلك بجعل سوريا ساحة قتال إضافية، بينما إذا كانت الحرب طويلة، فسوف تسمح لروسيا بالمناورة، بإجراء انقسامات داخل التحالفات ضدها. ثم إن الصين ليست على الحياد، بل تتظاهر، إنها تحاول أن تمد في عمر بوتين.
هذه توقعات، ماذا لو نجحت، وضعفت قبضة الروس على سوريا، ستحاول الخروج لتقلل من خسائرها. من سيحل محلها؟ بالمناسبة، بدأت إيران تحل محل الروس عقب بعض الانسحابات الجزئية من سوريا. إذا استمر هذا السيناريو، وتضافر مع الاتفاق النووي، فعندئذ ستكون سوريا أرضا مفتوحة لملالي إيران وحزب الله.
ما الذي سوف يفعله السوريون؟ ليس سوريي الائتلاف وأستانا وجنيف، بل السوريون جميعا في الداخل والخارج، هل يجددون العمر لاحتلال ينتهز الفرصة ويتوسع على أرضنا؟
إنها فرصة للسوريين بجميع فئاتهم واتجاهاتهم، لينقذوا بلدهم من درك العجز والفقر والغلاء والفساد واللصوص والخراب والقتل…. والأهم من طائفيتهم البغيضة. أليس في ما مضى تجربة كافية ليدركوا ألا خلاص لهم إلا بأنهم سوريون فقط، وأن عقائدهم لا تمنع من أن يكونوا يدا واحدة؟ إذا لم يكن بوسعهم التعلم من هذه التجربة، فبانتظارنا جميعا عقود أخرى من الموت.
-
المصدر :
- تلفزيون سوريا