في الماضي، لم تكن الشهرة تشكّل إغواءً كبيراً للبشر، كانت مخصّصة للأباطرة والملوك والحكام وقادة الجيوش؛ مناصبهم كفيلة بمنحهم الشهرة. قلة من البشر كانوا بلا قوّة ولا سلطان حصلوا عليها من دون تعمّد، بخصالهم الحميدة كالوفاء والعشق والكرم… إلخ. عموماً كلّلت الشهرة رجالها المعتبرين بسبب الحروب التي خاضوها، والمدن التي دمروها، والرؤوس التي قطعوها.
منذ وقت مبكر، تنبّهوا إلى أن الشهرة لا ينبغي أن تكون محددة بزمانهم وحده، بل ينبغي أن تتجاوز عصرهم، فكلفوا أصحاب القلم بكتابة سير حياتهم بحيث تبلغ مآثرهم الأزمنة القادمة. فتمتعوا بالشهرة في حياتهم وبعد مماتهم، حتى أصبحت الشهرة المستقبلية هدفاً أيضاً، ما يحفظ لهم سمعتهم نقية مما ارتكبوه من خطايا وجرائم. لم تكن الفكرة سيئة بالكامل، ثمة فائدة في التعرّف إلى العصر والرجل، ولو من وجهة نظر محابية.
مع ظهور المطبعة وانتشار الكتب وتوفرها بأعداد كبيرة، أصبحت الشهرة بمتناول المحرّضين على الحريات والثورات والإيمان بالعقل، كذلك كانت من نصيب مهرّجين نالوها تحت تأثير دوي تصفيق المتفرجين.
في ما بعد، مع ظهور التلفزيون، أصبح للشهرة منابر بالصوت والصورة، فبرز صنف من المشاهير المتأنقين، عزّز المكياج إطلالتهم على الجمهور؛ كانوا خليطاً من مثقفي السلطة، ومحللين وسياسيين وقارئي الحظ، ومقدّمي البرامج، كانت شهرتهم تتلاشى مع انتهاء المواسم السياسية، والدورة التلفزيونية.
” كلما كانوا أكثر بذاءة حصدوا معجبين أكثر وشهرة أكبر”
بالنسبة للمطربين والممثلين الذين كسبوا شعبيّتهم من جراء الصورة، فالشهرة انطوت بموتهم، إن لم تذهب معهم إلى النسيان.
الطامة الكبرى كانت صفحات التواصل الاجتماعي. فبينما بنى السابقون شهرتهم سواء زوراً أو بهتاناً بعرق جبينهم، أو بالمال وقوّة السلطان، وربما بالفضائح والأكاذيب، ولا ننسى الاحتيال أبسط الشرور الشائعة، من دون التورّع عن ارتكاب أفظع الجرائم، كرمى لأحلام المجد…
فرض القادمون الجدد على أثير الإنترنت، شهرتهم بالتعليق على الأحداث المهمة والتافهة، بالذمّ والقدح والشتائم، والسخرية من المعتقدات والمبادئ ولو ضمن نطاق ضيّق من بضعة آلاف من المتابعين، لكن عدواهم انتشرت، وأصبحوا ينازعون عُتاة المشاهير على شهوة الكتابة.
المفارقة أنهم كلما كانوا أكثر بذاءة حصدوا معجبين أكثر وشهرة أكبر. لذلك لم تجذب الاتجاهات الجادة لأصحاب المطولات في الفلسفة والتاريخ والسياسة إلا القليل من القرّاء، مع أن بضاعتهم كانت من الكلام المفيد، خسروا الإعجاب، وفاتتهم الشهرة. لم يدركوا أن العالم يتجه نحو الهزل والترفيه، بلا تطويل ولا إطناب.
هذا الطابع العالمي الرائج في التواصل الهش النابذ للثقافة والنافر منها، لم يتأذّ منه مثقفون مرضى بالشهرة، بل وجدوا فرصتهم، وإذا كانت له شروطه، فهم ليسوا قليلي حيلة ولا عديمي إسفاف، لا شيء يعيقهم عن مجاراة هذه النقمة، وتحويلها إلى نعمة، ولو أن الثقافة ستنحدر إلى درك الخيانة، ولا عجب، الشهرة من الأمراض المحبّبة المزمنة الآخذة بالاستفحال.
-
المصدر :
- العربي الجديد