لم تُستهلك عبارة كما استُهلك وصف “حدث تاريخي”، حتى بعد إدراك الناس أنه غالباً لا يزيد عن إلقاء خطاب سياسي تحريضي، أو زيارة رئيس لبلد ما.

قبل سنوات أتحفتنا الحماقة بحدث كان إقامة نصب تذكاري عبارة عن بوط عسكري، هذا عدا عشرات التماثيل لـ”زعماء تاريخيين”، لم يحفل بهم التاريخ إلا على أنهم طغاة وقتلة. كذلك اجتماع الرؤساء والملوك العرب، شهدت عليه مراراً محطات التلفزة العربية، خرج منه المجتمعون مختلفين، وكان الأمل أن يتوافقوا تحت ضغط الأخطار الناجمة عن تفرّقهم. بهذا نكون قد استبعدنا ما نقصده من أحداث قيل إنها تاريخية، ولم تكن سوى لحظات سوداء. تلك هي تاريخيتها أو علاقتها بالتاريخ.

الحدث التاريخي، صناعة بشرية، مهما بلغ اعتقادنا في تأثير الحظ والمصادفة، للبشر اليد الطولى فيه، بتطلعهم نحو التقدم، والعمل من أجل الأفضل. عندما يستنقع التاريخ في الجمود ويتعطّل، يقفز الطموحون إلى السلطة، والمغامرون والمحتالون واللصوص والمجرمون… على رأسهم قادة مزيّفون.

وقد بدا مراراً، وكأننا لا نصنع التاريخ، بقدر ما يصنعنا، وأول ما يصنع المؤرخين الأمناء الذين يكتبونه، وفي حال الافتقاد إليهم، يتولى هذه الصناعة أناس على شاكلة مزوّري النقود، فيصبح التاريخ أوراقاً بلا قيمة، تمتلئ بالأكاذيب، تبرر بها جرائم الحروب والتسلط والمجازر والمعتقلات والمنافي. ما يحيلنا إلى تاريخ أعمى، يسوغ أحداثاً مشؤومة. أما متى سيأتي الوقت الذي سيلفظها من صفحاته؟ فلا ضمانة، سيطول الوقت ويصبح التاريخ حفراً في الماضي.

اعتقد الكثير من القادة والسياسيين أنهم يصنعونه، ففي المشرق العربي تنطّح العسكر لصناعته، واحتجزوه بالقوة، وبالغوا في تشويهه وتدميره، بجعله مطواعاً لنزواتهم في البقاء على رأس السلطة، بينما تولى التاريخ الأعمى أقدار الشعوب، لو كان مبصراً، لما حظينا بالقذافي وصالح وصدّام والأسد… كانوا نتاج عصر واحد، ولم يخفوا نواياهم في توريثه لأمثالهم، فلنتصور عصوراً تتعاقب ديدنها العمى.

يترك التاريخ الأعمى قياده لـ”العالم المتقدّم”، طالما هناك دولة كبرى متنفذة، لديها اعتقاد أنها صحّحت مجرى التاريخ، ببداية جديدة، وجيّرته لها، ولا يعود تاريخ الشعوب الأخرى إلا صناعة ملحقة بها على الهامش تحت رعايتها، أودع في عهدة الطغاة، بحماية أجهزة المخابرات.

يأخذ الحدث التاريخي نصيبه من الحقيقة باعتباره فاصلة فارقة، قد لا تُحدث أثرها فوراً، لكنه يؤسس لانعطافة تحدّد سير التاريخ بضعة عقود، وربما قرن أو أكثر، يتحقق من خلال إرادة الفعل وإدراك أبعاده القادمة، فالتاريخ إمكانات مفتوحة على المستقبل، تتجلى في اندفاعته نحو أفق يختزن مناحي التغيير. وإذا كان لكثير من الأحداث التاريخية تداعيات بالغة السوء على الكثير من الشعوب، فلأنها تجري على حسابها، نلاحظها في اكتشافات الغرب الكبرى، كانت لحظات فاصلة بالنسبة إليه، شكّلت في زمانها حدثاً عالمياً فريداً، لم تساعد الكثير من البشر على العبور نحو الحضارة، بل ذهبت بها إلى الاستعمار وتجارة العبيد والتمييز العنصري، وساهمت في فرز الشعوب إلى متقدمة ومتخلفة.

ليسوا قلة القادة الذين تلمسوا اللحظة التاريخية، لم يكونوا مجرد عباقرة، إنهم قادة عظام، المستقبل مدين لهم. المفارقة أننا في زمن يفتقد إليهم، حتى عندما كانت اللحظة التاريخية مهيأة؛ لحظة “الربيع العربي”، كانت فرصة للوقوف في الجانب الصحيح من التاريخ، لكن أخفق في اقتناصها رؤساء وقادة أحزاب ومثقفون ومحللون سياسيون، لم يتخلفوا عنها فقط، بل وقف أغلبهم ضدّها، وحملت الشعوب العزلاء وحدها شعلة هذه اللحظة التاريخية.

هذه اللحظة لم تنطو، ستبقى معلقة طالما كانت الحرية هدفاً، ولن يكون للتقدم أن يحصل، ولا أن تتوفر شروطه من دونها. وسيكون للنضال من أجل الديمقراطية وسيادة القانون راهنية اليوم، أكثر من أي وقت مضى.

للتاريخ معنى، بل أكثر من معنى، ليس نهائياً، ولا مستقراً، ففي كل عصر، يحتاج إلى ما يفسّر تحولاته المتجددة، التاريخ لا يفقد عقله.