في منتصف القرن التاسع عشر، كان قد جرى ارتياد أغلب مناطق العالم المجهولة، وامتدت خطوط السكة الحديدية من الموانئ البحرية إلى المناطق الموغلة في البعد من كل قارة، لم يصلها من قبل إلا الرحالة الأكثر جرأة. وغدت الكرة الأرضية موحّدة بصورة لم تحدث من قبل بهذا الاتساع.
كانت إمبراطوريات أوروبا متماسكة من خلال التعاون المتبادل بينها، وتزايدت التجارة الدولية، ونسجت اقتصاداً عالمياً، وتحوّلت المدن إلى ورش صناعية تزوّدها المستعمرات بالمواد الأولية، توّجت هذه الوفرة والتلاحم بمعرض باريس الدولي عام 1900.
دلّ هذا التعاون على نشوء “عالم سعيد”، واكبه انتشار مجموعة قوانين وأعراف مقبولة للنظام الاجتماعي الدولي، جعلت من العنف آلية نادرة لحل النزاعات، ونَعِم المواطنون بالأمن في بيوتهم، وتنقل المسافرون من رجال أعمال وسياح بحرية وأمان وسلام، لا يحتاجون إلى جوازات سفر، أو تأشيرات دخول، أو أوراق اعتماد سوى إثبات هويتهم كبشر.
أثبت القرن، قبل أن يرحل، أنه كان الأكثر نشاطاً وثراءً وتقدّماً من كل العصور، وكان سخياً بإنجازاته على القرن التالي، حتى إنه بشّر بالسعادة، فالوفرة التي حققتها الآلة ستقضي على الفقر، وتعِدُ الناس بسعة العيش في المأكل والملبس والمأوى، أكثر مما قد يستهلكونه، ووسائل ترفيه وأوقات فراغ، والتمتع بصحة تمنع الأمراض، إضافة إلى التلقيح من الأوبئة، وسيحرّر التعليم الجماهير من الجهل، ولا يكفّ التقدم عن التقدم إلى الأمام دائماً؛ إنه التطور الإنساني الجبار الذي لن يقف عند حد، إلا بعدما تصل البشرية إلى حالة شبه ملائكية، تبرهن على أن البقاء للأصلح، وهو الأقوى، وطبعاً الأفضل أخلاقياً.
للحضارة منافع، هذه إحداها: السلام لنا، والحرب لهم
كان الأفضل أخلاقياً واعداً بتعالي أوروبا عن الحروب، بعدما انحسرت النزاعات والضغائن الدموية، فلم تعد النزاعات المسلحة الخطيرة واردة بين حكومات عاقلة ومتحضرة، وشعوب أصبحت أكثر ذكاءً وعقلانية، تترفع عن التورط في نزاعات عسكرية على مستعمرات جرى تقاسمها. ما يجب وضعه في الاعتبار من الآن فصاعداً، اقتصارها على شعوب “متخلفة عن ركب الحضارة”. وللعلم، لم يكن السعي للهيمنة عليها إلا لنشر الحضارة، إذ للحضارة منافع، هذه إحداها: السلام لنا، والحرب لهم!
اعتاد الناس التقدّمَ السريع، لدرجة اعتقدوا أنه لن يتعثر
، ومن المستبعد أن يقف أو يتلكأ، بدا تقدّماً بلا نهاية. وإذا كان الحاضر أفضل من الماضي، فالمؤكد أن المستقبل أفضل من الحاضر. لن تتراجع الحضارة ولن تسقط، وإذا كانت الحضارة الرومانية قد أسقطها البرابرة، فمن أين سيأتي البرابرة لتهديد أوروبا القوية؟ لن يأتوا من المستعمرات، بعدما أصبحوا عبيداً أو صنو العبيد.
كانت الحضارة آخذة في الاقتراب من الكمال.
هذا التفاؤل لن يطول، سيتحطّم عام 1914 مع اندلاع الحرب التي ستصبح عامة بعد انخراط دولة بعد أخرى في الصراع، وسيتدافع الناس إلى الشوارع للتهليل لها، ونادراً ما تخلف عنها الرجال والشبان، وباركها الرهبان. اعتبرت الحرب استعراضاً مشرفاً للشهامة والبطولة، ولن تزيد على نزهة لن تطول أكثر من أسابيع أو شهور.
كانت توقعاتهم خاطئة، لم يجد الجنود البواسل مجالاً للفخار والمجد، بين الطين والوحل وأشلاء الجثث، في الخنادق بين الأسلاك الشائكة ونيران الرشاشات، وتبادل القصف المدفعي، والتساقط المجاني للقتلى. ستطول أمدها سنوات تستجر جنوداً من ثلاثين دولة، يتقاتلون دونما هوادة، فالتساوي في الحجم والقوة أدى إلى حرب متكافئة، والأسوأ أنها شاملة، وكانت الأكثر كلفة في التاريخ، لم تحقق سوى مكاسب تافهة.
اعتاد الناس التقدّمَ السريع، لدرجة اعتقدوا أنه لن يتعثر
انتهت الحرب عام 1918، بعدما أزهقت أرواح عشرة ملايين جندي، وعشرة ملايين مدني بفعل الاحتلال والحصار والمجاعة والأمراض. ومحت من الخريطة أربع إمبراطوريات: الألمانية، والهنغارية النمساوية، والروسية، والعثمانية. وأسّست للحرب العالمية الثانية، التي ستندلع عام 1939، ومن جرائها ستظهر النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، وستشارك فيها الدول نفسها.
إذا كان التاريخ سيكرّر نفسه، فالاتجاه اليوم الذي يندفع إليه قادة الدول لإعادة ترتيب العالم، لا يخفي نوازعهم في استعادة الإمبراطوريات، يشاطرهم بها بعض الدول الإقليمية، فالأميركان لا يخفون تطلعهم إلى استمرار دورهم الإمبراطوري، بعدما تراجع، وكذلك الصين الصاعدة كالصاروخ، تسعى إلى إمبراطورية عظيمة طواها التاريخ. أما روسيا، فتثبت أقدامها في بلادها، وعينها على الجوار، على أمل إحياء العهد القيصري. ولا ننسى إيران وإمبراطورية فارس. أما أوروبا العاقلة، فقد كان للدرس الذي تلقته خلال حربين عالميتين مفعوله، جعلها تعمل على بناء أوروبا موحدة، كادت أن تصبح إمبراطورية.
درس التاريخ لم يضِع هباءً.
-
المصدر :
- العربي الجديد