قبل انتهاء القرن الثامن عشر، نبّه المفكر السياسي إدموند بيرك، في مجلس العموم البريطاني، إلى أنّ الصحافة أكبر أهميةً من الطبقات والأحزاب، وكانت في ذلك الوقت؛ رجال الدين والنبلاء والعوام. بذلك وضع بيرك مفهوم الصحافة كسلطة رابعة.

في الواقع، انتزعت الصحافة مكانتها وساحات سلطتها، وجرى الاعتراف بها بموجب تواجدها وتدخلاتها واختراقاتها للفضاء العام. لم تُمنح لها السلطة بقانون، كالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. مع الزمن باتت مركز ثقل، تتمتّع بقوّة هائلة من خلال تأثيرها على العقول، لم يقل تأثيرها عن المدرسة والجامعة، إن لم يكن أكبر، وعلى مدى زمني أطول، بتناولها شتى المواضيع: دينية وسياسية وأدبية وفلسفية واجتماعية وأخلاقية وتسلية وترفيه.

أصبحت ذات دور لا يُستهان به، يعادل أو يفوق قوّة الحكومات، وإن لم تكن سلطتها رسمية، قادرة على التدخّل في أعمال السلطات الثلاث ومراقبة أدائها، وتصحيح مسارها من خلال ما تنشره من أخبار وتحقيقات وتسريبات وفضائح، بالرغم من إمكانيّاتها المحدودة، لم تكن مسلّحة إلا بالقلم، لكنه يجرح، وقد يقتل.

برهنت الصحافة أنّها قادرة على تغيير مسارات خاطئة، وحماية حقوق المضطهدين والأقليّات في العالم. ونجحت في هزّ عروش زعماء استأثروا بالسلطة لسنين عديدة، والتشهير بفساد الحاشية، وأجهزة الأمن، والقيام بالتعبئة ضد أوضاع سيئة، في بلدان اعتاد حكّامها على قمع شعوبهم، وإسكات المعارضين، والحجر على الإعلام. وأكبر ما سجّلته من نجاحات كان في تغيير الثقافة المجتمعية والفكرية، أحياناً من خلال تحويل قضيةٍ ما إلى قضية رأي عام. وأسهمت بنشوء حركات اجتماعية، والتحريض على تحركات ومسيرات داعية إلى تحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعاظم دورها لدرجة أنها باتت قادرة على الإطاحة بسياسيّين قادة، ورؤساء وزارات وأحزاب، وإسقاط حكومات، واعتزال سياسيين.

صحافة موجَّهة تهدف إلى تطويع المواطنين وتحويلهم إلى قطيع

في الدول الشمولية، تقوم السلطة بالسيطرة على وسائل الإعلام، بقيادة حزب واحد، وفي الحقيقة رجل واحد يضع الخطوط الكبرى التي تتقيّد بها، عدا تدخُّل أجهزة المخابرات في كل ما يمتُّ للأخبار والبرامج مهما كان نوعها، من دون إغفال أدق التفاصيل. تضع الدولة يدها عليها تحت عنوان الإعلام الموجَّه، وتُحدّد سياسته الهادفة إلى تطويع المواطنين وقولبتهم على الاعتقاد الواحد، وتحويلهم إلى قطيع من البشر.

بينما في الدول الديمقراطية، إذا كانت تمثّل مصالح الشعب، لكن أي شعب؟ طالما النخبةُ السياسية تستغل شرعيّتها كسلطة منتخبة، وتعمل على تحجيم وسائل الإعلام، وسلبها حريّتها، وجعلها بوقاً للسلطة السياسية، بالتحايل على ركن أساسي من أركان الديمقراطية، ولو كان بالإطاحة به.

ودائماً المخاوف واردة في الدول الديمقراطية من احتكار الإعلام لصالح أحزاب معيّنة، ما يحرم خصومهم السياسيين من إمكانية التعبير عن آرائهم وأفكارهم، فالديمقراطية تعني تعدّدية الآراء والأفكار. وإذا ما انتفت هذه التعددية فلن يبقى من الديمقراطية إلّا الاسم، ويمكن التلاعب بها، طالما الشركات الكبرى ومراكز القوى السياسية، تسعى للسيطرة عليها، وبثّ أفكار تخدم جهات معيّنة، عدا قدرة الأثرياء على إنشاء إمبراطوريات إعلامية، تنطق بما تريد، وتشيع ما ترغب فيه، وتمنع وتحجب كما تشاء.

لذلك يتنافس رجال الأعمال على شراء المحطّات الاذاعية والقنوات التلفزيونية والجرائد والمجلات. ما يحولها إلى إعلام تعشّش فيه البيروقراطيات جنباً إلى جنب مع الفساد، يُصادَر فيه أي نوع من التفكير في القضايا الكبرى، ما دامت قوّةُ المال قادرةً على إرسال القضايا العادلة إلى النسيان.

وكما نرى اليوم، يوجد محطّات إعلامية وجرائد يتحوّل محرّروها وكتّاب صفحات الرأي فيها بقدرة قادر من خندق إلى خندق معاكس، لمجرّد أن سياسة الدولة تغيّرت أو اشتراها رجل أعمال. وما على الكُتاب إلا أن يميلوا معها كيفما اتجهت، صحافة تمدح وتُجَمّل، مثلما تشيطن وتؤبلس.

إذا كانت السلطة الرابعة قد أنتجت نفسها، فالديمقراطية جعلتها تستمر، لكنها اليوم في خطر، ويُخشى أنها لم تعد تتمتّع بهذه الصفة، وربما آن الأوان لنقول لها وداعاً، بعدما باتت مهدّدة، ومساحاتها ضيّقة، تعتمد على بعض القنوات الحرّة ومذيعين وصحافيّين شجعان يغامرون بمستقبلهم وبمصادر عيشهم من أجل الحقيقة.