ماذا تعني الواقعية بالنسبة للروائي؟ ببساطة، إنها الواقع الذي يقع بمرمى بصره، من حوله، وخلف النافذة، وراء جدران منزله، وفي الشارع، وما لا يقع أيضًا بمرمى بصره، لكنه موجود فعلًا. كذلك ما حدث من قبل، وما قد يحدث من بعد، يلتحق به ما يتخيله ويحلم به… الخيال والحلم والوهم جزء من الواقع، من دونها يحصل خلل وصدع، إن لم يكن في بنيانه بالذات. الواقع هو كل شيء، وحتى هذا اللاشيء.

يأخذ الروائي كلّ هذا بالحسبان، لكنه لا يعيد كتابتها، ولا يكتبها هكذا كما هي تمامًا، وإنما كما يراها من موقعه، أو من خلال الزاوية التي ينظر منها، أي من خلال ذاته، ولو وصف الأحداث والمشاهد والأشياء بمنتهى الموضوعية، إذ غالباً ما تتدخل أو تتداخل ذاته في إعادة صياغتها. الخلاصة، لا يمكن أن يكون العمل الروائي فنياً إلا في رؤية الواقع منظوراً إليه من عيني الروائي. وأحد تجلياته إعادة ترتيبه باختزاله إلى ما يعنيه منه، بحيث قد يقول شيئاً أو أشياء، قد تزيد أو تنقص، عما يظهر منه، وربما عكسه، إنه ما يريد للواقع أن يقوله، أي إنطاقه به.

مثلما الواقع أسير الروائي، كذلك الروائي أسير الواقع

تتوخى الرواية الكشف عن الواقع، وتعريته، التلاعب به، ورصد تحولاته وتقاليده وعاداته وأسراره وخباياه… يصوره الروائي، ويخلع عليه مشاعره وما يحسّه نحوه، وما يتصوّره من دوافع، ولو كانت تجري في الخفاء، كذلك الأسباب غير الظاهرة للعيان في حركته. فمثلًا، شكل العهد الاشتراكي تحلّل طبقات وظهور أخرى، كما أنتجت الحروب ما يدعى بطبقة أثرياء الحرب، كانت ثرواتهم منها، لا بطرائق الصعود الاجتماعي. أما طبقات المحتالين الجدد، فمن خلال الأساليب الملتوية لجني المال، أخذت بالتمدد في الدولة عبر وسطاء وتجار عمولات، أي اتساع رقعة الفساد. طبعًا هذه ليست مهمة الكاتب وليس مطالباً بها، الأجدر بها المحاكم الجنائية ولجان التفتيش، وإن لم تطاولهم. لكن لماذا الروائي؟ لأنه مسؤول عن الحقيقة، هل يدير ظهره لها؟ هذا الواقع يقتحم عوالمه، ماذا يكون؟ وإلى أين يتجه؟ تتعدد مهام الرواية الواقعية، ويقع تحت سلطانها كل شيء، ومثلما الواقع أسير الروائي، كذلك الروائي أسير الواقع.

الفرنسي بلزاك، لم يكن يدرس عادات عصره وتقاليده كما يدرسها عالم الاجتماع والاقتصاد، لكنه عبر عنها بالنظر إليها بعين الفنان، وأدرك من حركتها إلى أين تتجه، وخلع عليها ما استخلصه من معرفته بها، فحوّل الواقع من فرط إحساسه به، من الأرض إلى لوحة تصور ما رآه بصورة أدق، بمعنى أنه ذهب إليه في العمق. فعندما لاحظ أن الأرستقراطيين الفرنسيين أصبحوا يقبلون لأول مرة على الزواج من البورجوازيين الذين اغتنوا من عملهم، لم تعد القصة، قصة حب فقط، كان قد التقط حقيقة واقعية، كشفت عن تحولات الواقع في القرن التاسع عشر بعد الثورة الفرنسية؛ البرجوازية بدأت تحتل مواقع، اضطرت النبالة إلى التخلّي عنها.

أضاف فلوبير إلى الواقعية، الوصف القوي الذي لا يرحم للواقع، وكانت قسوة هذا التحليل الاجتماعي، لا تقل عن تشريح عادات وتقاليد وأوهام المجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر، تعداه إلى جرأة التشريح الأخلاقي، ولم يغالِ النقاد عندما شبهوه بتشريح أبيه الجرّاح للجثث في العمليات الجراحية. أما عن دور الفنان في روايته “مدام بوفاري”، فقد استطاع أن يحقق المعادلة شبه المستحيلة: الصدق في تصوير الواقع بكل تفاصيله التافهة أحياناً واليومية والعادية المبتذلة، مع خلع شحنات شعرية عليه، فقبض على فجاجة الواقع وجماليات الشعر، فالحقيقة والجمال لا ينفصلان، ولا يمكن أن يكون مبدعاً، إن لم يكن حقيقياً وصادقاً في رؤاه.

الفصل التالي من الواقعية، كان تحت تأثير إميل زولا، الذي وصل بها إلى مرحلة الدراسة الاجتماعية والنفسية، أوجزها في استعراض مبادئه الفنية، بما معناه: العمل الفني ما هو إلا الواقع منظوراً إليه من خلال عيني الفنان اللتين لن تخدعاه ولن يخدعهما، لن يستطيع الكذب على الواقع، ما يعني أن الرواية ينبغي أن ترتكز على العقل والحقيقة، بل وعلى العلم الطبيعي، لا الانفعال الرومانتيكي، لأنها علم الواقع، ولو خلع عليها مسحة من الخيال الخلاق.