“يتوهَّم البشر أنهم هم الذين يتحكّمون بأحداث حياتهم”. تحمل هذه العبارة لليوناني هيرودوت ما ينفي خيارات البشر، ما يعني أنّه لا سلطان لهم على مجريات حياتهم، كأنما عشوائية الحياة، أو مقاصدها، إن كان لها مقاصد، هي التي تقودهم في مساربها. لو لم يكن هيرودوت مؤرّخًا لما قالها بهذا اليقين، هذا ما تعلَّمه من جريان التاريخ سواء في عماء، أو نحو هدف، ليس البشر فيه سوى بيادق مسيَّرة، يعتقدون أنهم مالكو أمورهم.
لئلا نُحمِّل هيرودوت ما لا يُطاق، أو لم يقصده، ليس المعنى أنَّ البشر بلا إرادة، وإنما ما يُحرِّك الانسان هو مجموعة من الظروف والأحوال والمؤثّرات والنوازع، تتحكّم به، ليس من السهل التغلُّب عليها، إن لم يكن من المستحيل، أي أنَّ الإنسان بحاجة إلى أن يعيَ موقعه في سيالة الحياة، لئلّا تجرفه أنواؤها، وليكتسب صفته كإنسان ذي إرادة. وفي حال ترك حياته تجري على عواهنها، عليه تقبُّل مصيره بإرادة مغلولة، رغماً عنه، وبقدر ما تكون النتائج، جيّدة أو سيّئة تنعكس عليه، كأنها صدى لها. وإذا صمّم على التمرُّد على ما يتحكّم به، فما سيرتد عليه تحت تأثيرها، قد يكون مشجّعًا، أو محبطًا، ولا يعني الهزيمة، فالمصادفات ليست في الحسبان، قد تقلب توقّعاته عكس ما يأمل، فالخير قد لا يجلب الخير، وقد يفعل شيئًا سيئًا، يحصد منه مكاسب كبيرة.
يزوّدنا التاريخ بنهايات حتمية توفّر مسالك لا جدوى منها
كي لا نستغرب، هذا هو العالَم أمام أنظارنا يشهد بأنَّ أكثر الأعمال انحطاطًا وإجرامًا تؤتي أصحابها المال والمناصب، وربما ما هو أكثر، يبلغ الشرُّ بأصحابه إفساد الناس، والإمعان في سحقهم تحت وطأة الحاجة. قد نظن أن الأفكار تضلّلنا، ونعتقد أنها جديرة بالسعي إلى تحقيقها، لمجرّد بريقها، أو إغرائها بإنجازات ثمينة، من دون الاهتمام بتكاليفها الأخلاقية الباهظة، فمثلًا الاستيلاء على دولة، وإخضاع شعب، وقتل بشر يتوقون إلى الحرية… أعمال قد يكسب صاحبها من ورائها مكانة يشيّدها فوق كاهل الآخرين، وعلى حساب خنوعهم وجهودهم الحمقاء.
على هذا المنوال، يندفع قادة ينتهزون الفرص للاستئثار بسلطات غاشمة، وجني المال بالنهب، فيحصدون الثروات بالتحايل على شعوبهم، واستئجار أعوان مجرَّدين من الضمير، لا يعرفون الحلال، ولا يوفّرون الحرام. مهما طال الزمن تذهب بهم إلى الهاوية، على عكس ما أرادوه. الطموحات الباطلة، لا الأفكار هي التي ضلّلتهم، بموجب اعتقاد أنهم سادة أقدارهم، بينما لا يتحكّمون بالخطوة التالية، إن لم يردعوا مطامعهم.
وربما لم ينجحوا في جرائمهم، لو لم يقطعوا مع الماضي، يعتقدون أنهم من دونه يمضون في الحياة أحرارًا غير مثقلين بالتاريخ، ولا بقيود العادات أو عوائق التقاليد، إذا بهم يخوضون في الواقع عزلًا، بلا ماض ولا هوية سوى الغرور والجشع. لا يعني النظر إلى التاريخ الاسترشاد به، ولا السير على هديه، وإنما الابتعاد عن مزالق وشرور كانت من فرط اللهاث وراءها، مزاعم ونزوات، ولو كانت أرباحها كبيرة، لكن خسائرها فادحة. بينما تزوّدنا عِبرُ التاريخ بالنهايات الحتمية، ما يوفّر مسالك لا جدوى منها إلّا في الخراب. إنّ للطمع ثمنًا باهظًا.
لو أن البشر استوعبوا التاريخ المتكرّر للاستبداد منذ الإغريق حتى الكواكبي وما بعده، لوفّروا ضحايا ودماءً ومشانق وسجوناً، لكن الاستبداد يعيد سيرته المشؤومة، وتُستعاد المآسي معه، كأنما هو لصيق بالإنسان، ومن طبيعة البشر، بل وكأنما لا إرادة ولا وعي، والأحداث تقودنا، وما الإرادة والعقل سوى أوهام.
صحيحٌ أنَّ الإنسان، حسب هيرودوت، لا يتحكّم بحياته، لكنّه يتحكّم بخياراته. فالعقل يميّز بين الخير والشر، وما الانسياق إلى الخطأ والزلل أو الإقدام على جريمة، إلّا عن تبصُّر، مهما شابَ المرءَ مِن كلَل في البصر، ولو كان نزوة. لا تُخفي الدوافع، وراء خياراتنا، ما نأمل من منافع باطلة، ولا معنى للادعاء بتَوَهان العقل، بل بإغراءات الشر، يُبصر الإنسان بالعقل، ويُصاب بالعمى، لو استسلم للجشع. عندئذ، من يتحكّم بمصيره؟
-
المصدر :
- العربي الجديد