ثمّة زمن لم تكن هناك صحافة وصحافيون، كان هناك أدب وأدباء. بعد ظهور الطباعة بفترة وجيزة ظهرت الجرائد. اعتبر الأدباء أن الكلمة حِكرٌ على الأدب، تطفّل عليها الصحافيون، حتى بعدما أصبح للصحافة مكانتها. وإذا كانت امتلكت نصيبها من الكلمة المكتوبة، فمن دون مبرّر، وما عليها إلا إثبات حقوقها فيها.
اعتُبرت الصحافة نوعاً متدنيّاً من الكتابة لاقتصارها على الشأن اليومي من حوادث وإشاعات ووشايات وفضائح، باعتبار الصحافي يجمع أخبار الشوارع والأزقّة الخلفية والحانات وما يتسرّب من القصور وصالونات الأدب، ويوزّعها على الناس. فلم توحِ الصحافة بممارسة عملٍ قيّم، وإنّما التعاطي مع نمَطٍ عابرٍ من الكتابة ذات التفكير العامّي الرديء. ما يُقرأ صباحاً يتلاشى مساء، على عكس الأدب، فالكلمة الراقية، وُجدت لتبقى.
بيد أنه سيكون للصحافة شأنٌ كبير، نبّه إليه الروائي الفرنسي بلزاك، برأيٍ إيجابي من ناحية صِلتها بالشارع، وذلك بالخوض فيه ونشر أخباره على الملأ. إذ لا حاجة لتقصّي ما يحدث، أو المثابرة على ارتياد المقاهي والصالونات للاطّلاع على أحوال المجتمع؛ ما دفعه إلى القول: “إذا لم تكن الصحافة موجودةً فيجب خلقُها”.
نحن أبناء الصحافة، أحدثت تقدّماً وحيوية في أسلوبنا
مع الوقت، لم يُستغنَ عن الصحافة؛ بدأت تترسّخ كدعامة أساسية للنظام الديمقراطي باعتبارها تستجيب لحقّ المواطن في معرفة ما يحدث، والاستعلام عمّا يجري، إضافة إلى أنها باتت ساحة للتعبير عن الرأي لمختلف أنواع البشر، خاصّةً أن وحدة المجتمع لا تقوم إلّا على أساس السماح بتعدّدية الآراء، وتوفير السبُل لها.
دَشّنت الصحافة مع الروائي الفرنسي إميل زولّا مهمّة البحث عن الحقيقة، عندما طالب بإعادة محاكمة الضابط الفرنسي دريفوس، الذي اتُهم من قِبَل قيادته العسكرية السياسية بالخيانة، واحتكم من خلال الصحافة إلى الرأي العام والقضاء النزيه. باختصار، أصبحت الصحافة وسيط الحياة الديمقراطية الفرنسية، وجزءاً لا يتجزّأ من خلق مجال عمومي تواصلي بين الناس.
وكان السبق لأوّل نقابة قومية للصحافيين الفرنسيين في بناء أخلاقيات الصحافة، إذ تبنّت ميثاق شرف للعمل الصحافي (1918) يقوم على النزاهة، وحسن النِيّة، واحترام الإنسان، والاحتفاظ بأسرار المهنة، وعدم الانحياز في طرح الأخبار ومعالجتها.
أصبح لها كُتّابها الكبار، من دون اشتراطات مِهنية كالحصول على إجازة جامعية، أو شهادة من مدرسة للصحافة. كان عدد الذين يحملون مثل هذه الإجازات أو الشهادات لا يتجاوز 15% من العاملين في حقل الصحافة الفرنسية. كما نال الكثير من الكتّاب الكبار، أمثال ريمون آرون، ألبير كامو، فرانسوا مورياك، الشهرة في البدء بفضل ممارستهم الصحافة أكثر من الأدب أو الفلسفة. هكذا، فإن روائياً كإميل زولّا أعلن عن دَينه للأسلوب الصحافي قائلاً: “نحن جميعاً أبناء الصحافة؛ أحدثت تقدّماً وحيويّةً في أسلوبنا، وباتت وراء معظم قضايانا”.
لم تعد الصحافة مقتصرة على جامعي الأخبار، أصبحت منافذ للنخبة تعبّر من خلالها عن أفكارها. وإذا كان الاختصاصي يكتسب شرعيته من المعرفة العلمية، فالمثقّف يكتسب شرعيته من الموضوعات التي يعالجها. بينما الصحافي يحصل على شرعيته من التواصل مع الجمهور، وليس حسب ما يشاع عنه بأنه “يقول أيّ شيء كان” لعدم تمتُّعه بالمؤهّلات العِلمية والفكرية والاقتصادية التي يتطلّبها الخوض في مجالات الحياة الاجتماعية. ربما كان مطلوباً منه الإلمام بها، لكن يكمن عمله بالدرجة الأولى في إطلاع الناس على ما يجري في هذه المجالات بنزاهة وموضوعية، من خلال علاقته اليومية مع جمهور القرّاء، والتفاعل والتواصل معهم، وأن يضع في حسبانه الأسلوب الصحافي المتميّز بالتبسيط والاختصار والعمومية، موجّهاً للعامة لا للخاصّة، للأغلبية لا للنخبة، إذا ما أرادت الصحيفة ان تقوم بدورها الاجتماعي.
ما ينتقص من الصحافة اليوم، أن السياسة والاقتصاد يمارسان سلطتهما بشكل لا نجده على المستويات نفسها في بدايات القرن الماضي. وهو ما يحيل الصحافي إلى أداة أيديولوجية بيد الطبقة السياسية، أو أداة تجارية بيد الطبقة الاقتصادية. إن أية صحيفة مشروطة بالضرورة بإحراز مبيعات كي تستمر في الوجود، ولكنها مشروطة بالاستجابة لتطلعات القارئ وإشكالاته. هل يستطيع الصحافي التمايز عنهما توفيرا لمصداقيته؟
-
المصدر :
- العربي الجديد