يتمتّع الكتاب بسمعة مرموقة، كأداة ضدّ الجهل، وتلمّس النور. بلغ تقريظه حدّ وصفه بأنه خير صديق، وأفضل أنيس. والمثير فعلاً، أنّنا بصحبة الكتاب لا نحسّ أنّنا وحيدون؛ مع الكتاب نكسر طوق العزلة، ونرحل إلى عوالم رحبة.

لا مبالغة في مديحه، فوائده منذ القديم لا تُنكر، وإلّا كنّا ناكرين لفضائله، لا نجترح مأثرةً في الدفاع عنه. وكثيراً ما وقع على عاتق المناصرين المخلصين له عبءُ الدعوة لإطلاق سراحه من القيود. المفروغ منه، مهما كانت ذرائع الرقابة، أنّ المنع ليس حفاظاً على أخلاق النشْء الجديد، ولا عدم المساس بالقيم الدينية، أو العبث بالتقاليد والأعراف الاجتماعية، أو مراعاة الحشمة وقيم العائلة. هناك الكثير ممّا يمكن الاحتجاج به ضدّ الكتب، ويُلخَّص عادةً بالثلاثي المعروف: السياسة والدين والجنس. تحت هذه اليافطة، قد يصبح المنع بلا حدود ويشمل كل شيء. هذه الأقانيم الثلاثة هي مادة الحياة والعيش والتجدّد؛ فلنقلْ، اختصاراً، إنّها أشبه بالهواء، والرقابة تريد منع التنفس.

تنشد الأنظمة الاستقرار، بمعنى الجمود والسكون: لا حركة ولا ضجيج، لا تفكير ولا تأمّل. مجتمعٌ خامل بالضبط، يلهث وراء تأمين سبُل العيش. وكمثال عابر، ينطبق على بلدنا، سورية: ليس من السهل الحصول على الخبز، فما بالُنا بالكهرباء والوقود، والأدهى الكرامة. فهل بوسع الكتاب أن يكون البديل عنهم؟

هل بوسع الكتاب أن يكون البديل عن الخبز والكرامة؟

لن نمنح الكتاب دوراً غير جديرٍ به. لنتكلّم عنّا نحن البشر؛ نقرأ كتاباً، فلا نعود أنفسَنا بعد قراءته؛ يُدخل تغييراً ما في داخلنا. ما هو؟ يختلف من شخص لآخر. قد يكون طفيفاً، يتحلّل بلا أثر، أو يترك شيئاً ما، ننساه، وربما استخدمناه مادّةً للنقاش، أو لادّعاء المعرفة. وقد يُسهم بتغيير نظرتنا إلى الأشياء، ويجعلنا أكثر تفهّماً لما يدور حولنا، وقد يستدعي مع الوقت إجراء تغيير في حياتنا. كيف؟ لن نبالغ، إذا كان له أن يفعل شيئاً مؤثّراً وعظيماً، على المدى الطويل، لكنّه الأساس لأيّ تغيير.

رغم ما في هذه الاستنتاجات من تبسيط ، لكنّها ضرورية أحياناً، ما يضعنا إزاء حقائقَ لا تحيد بنا عن الهدف، تُعيدنا إلى التساؤل عن الكتاب: ما المطلوب منه؟ إذا كان التسلية والمتعة، فالقصص العاطفيّة والمغامرات توفّرها على أحسن وجه. كذلك كتب الطبخ، لا تُخلف وعدَها بأطعمة لذيذة، ولا الأبراج في التنبّؤ بعام سعيد، مهما كنتَ تعيساً، وقد تبشّرك بحب في الأفق، ولو كنتَ عاشقاً.

ليس لهذا صُنعت الكتبُ فحسب. كما أنها ليست بهذه الدّعة. فالحصول على السعادة يحتاج إلى راحة الضمير، والعام السعيد ألّا تفقد حبيباً أو صديقاً، والحبّ يحتاج إلى التخلص من الكراهية، أما الطعام فإلى ما يفتح الشهية.

يُوجّه الكتابُ أصبع الاتّهام إلى صانعي الفساد

الكتاب، أيضاً، يقول لك مَن أنت، ويكشف لك حقيقة الذين يحاولون خداعك، ويعرّفك بحقوقك التي لا تَنازُل عنها، وبالكرامةِ التي لا إنسان من دونها، والحريةِ والعدالة اللتين لا بديلَ عنهما، ويفضح الذين يتحكّمون بمصيرك ومصير عائلتك ومستقبلك.

رحل الربيع العربي وخلّف وراءه اليأس ومدناً مدمّرة وملايين المهاجرين، فما جدوى الكتب؟ أخفق الشبّان الذين أرادوا إحداث تغيير في عالمنا العربي، ودفعوا الثمن غالياً. لم تُجدِ التضحيات حتّى يُجدي الكتاب. إذا كان هذا صحيحاً، فلنتساءل: لماذا غدا الكتابُ محاصراً؟

ليس الخوف من الكتاب إلّا خشية من تأثير القراءة في البشر. فالكتاب دعوة مفتوحة إلى التفكير في الله والحياة والموت والعيش والشيطان والشرّ والخير والكفر والجنون والمرض. ولا تُستثنى السياسة والدكتاتوريات وأجهزة القمع والمخابرات والفساد.

وندرك أن الربيع العربي كان محقّاً وضروريّاً، ونتساءل أيضاً تحت تأثيره: لماذا استُخدمت الدبّابات، وتسلّلت إيران، وهبطت روسيا، وظهر “داعش” الهمجيّ، وتدفّقت المليشيات المذهبية… أليس لسحقه؟ كان الربيعُ الحقيقةَ الخطرة. مع الكتاب أنتَ لست أعزل: الكتاب سلاح. يتطيّر الاستبداد من القراءة. الكتاب مغامرةٌ مضادّة للصمت والاستنقاع في الظلام. مغامرة ليست مأمونةَ العواقب، تضع القراءة في قفص الاتّهام، مثلما يُوجّه الكتابُ أصبع الاتّهام إلى صانعي الفساد.