إلى أي حدّ تصحّ إدانة الثقافة؟ السؤال لا يخلو من وجهة نظر قوية، فقد أتاحت الحرية للمثقفين قول أي شيء عن كل شيء، ووضعوا أفكارهم موضع التنفيذ مع بعض المثابرة، والكثير من العناد. هذا باعتبار أن المثقفين أصبحوا يشكلون طبقة تمسك بزمام العالم، تضمّ علماء وفلاسفة ورؤساء جمهوريات وحكومات وضباطاً وصحافيين ومحلّلين وأدباء وفنانين… عالمٌ يتحكّم به المثقفون، ما زالت الأمراض والأوبئة والديكتاتوريات والجوع والفقر تنتهكه. لذلك لم يكن الرهان عبثاً في أن تُحدث الثقافة متغيّرات في واقع قد يصبح أفضل، لكنه باء بالخسران. ما حصدناه كان تراجعاتٍ أكثر منها تحولات، لكن، بالقياس إلى أزمنة سبقت، لم تكن أسوأ كثيراً، وربما كانت أحسن.

اليوم، كما بالأمس، لا تكلّ الثقافة عن التشاؤم، والأصح عن صناعة التشاؤم، بابتداع وصفات أصبحت تنبؤات، هذا إنْ كان لها جدوى. صار التحذير من كلّ شيء. وما يُتداول عبارة عن مخاوف على نمط: الحضارة في اضمحلال، وفي سبيلها إلى الدمار. كأنما العالم مشرف على الفناء. من دون الشعور بالمسؤولية تجاه الحياة، هل تخوّلهم الثقافة، لا المعرفة، التلاعبَ بعالم مبتَلى أصلاً بالرعب من جرّاء مخاطر بيئية ونووية حقيقية، لا من مجرد توهمات؟ فالثقافة أصبحت تستمتع بإبلاغ البشرية بانتهاء دورها على هذا الكوكب.

يصح القول إن الثقافة شيءٌ والمثقّفين شيءٌ آخر

يستغلّ المثقفون عدم القدرة على تكهّن المستقبل بالقصور عن فهم الحاضر، فيتبرّعون بفبركة سيناريوهات، يستعرضون فيها النهايات الأكثر إيلاماً للبشرية، ويتشفّون بما يفترضونه من لامبالاتها، بخاتمةٍ مهما كانت آجلة، فهي عاجلة، وربما قادمة في اليوم التالي. وكأن المثقفين أصبحوا من قرّاء الغيب، يستشهدون بسلسلة قادها التدهور: انهيار الإمبراطوريات القديمة، نهوض روسيا السوفييتية، الدمار الحاصل جراء حربين عالميتين، الأزمات الاقتصادية الدورية التي تعصف بالعالم، سقوط الاتحاد السوفييتي، انفراط عقد المنظومة الاشتراكية في ظرف وزمن قياسيين. انفراط لم تشهد البشرية مثيلاً له من قبل بهذه السرعة، فالانحدار متواصل ومبشّر بإطلاق نفير النهايات.

لا تعبأ الثقافة المتشائمة بما جرى من تحولات اقتصادية واجتماعية، ومن تطورات مذهلة في الصناعة والتكنولوجيا والعلم والمعرفة ووسائل الاتصالات، ما دام لديها القدرة على توظيف هذه المتغيرات في دمار العالم. مع أنه في قراءة الماضي فرصة للتعلّم، لا لتكرار التاريخ على هديه. أخفق البلاشفة في قراءة المستقبل بالتشبّث بخريطة الصيرورة التاريخية، رأوا التاريخ قطاراً يستقلّه المستقبل، يسير على سكّة، ويعبر محطات، كل محطة تقوده إلى محطة تالية. فاتَهم أن طريق المستقبل ليس محدّداً، ولا يسير على سكّة مرسومة، ولا بالوسع التنبؤ بما يُدعى حركة التاريخ. وإذا كانت النازية حاولت قراءته على نحو مختلف، فهي لم تصمد أكثر من اثني عشر عاماً. أما روسيا السوفييتية، فسبعون عاماً. وكان مقدراً لهما الخلود، فالأفكار مهما كانت قدرتها على التنبؤ، ليس لها قوة القانون الأبدي.

لم ير مثقفو الغرب إلا الشر في العالم، ولم يوفروه من الإدانة. عالم فاسد وقبيح، محكوم بالظلم واللامساواة، وآيلٌ إن لم يكن إلى الانفجار، فإلى الضياع. سجّلت بداياته في كتاب أوسفالد شبينغلر الشهير “تدهور الحضارة الغربية”، ثم لم يتوقفوا عن التشهير بانهيار الحضارة، وإن تعددت العناوين: “انتحار الغرب”، “سقوط الحضارة”، “زوال الغرب”، “أفول الغرب”، “سقوط الغرب”… تسوق ذلك رغبةُ المثقفين في المعارضة والمخالفة، أكثر من النقد والكشف؛ بدعوى تأهيل البشر للتشاؤم، فحظوته لدى القراء إيجابية، إذا اكتسَت بشيء من الجدية، ولو كان فيها تعتيم على حقيقة تبعث على الأمل.

لا يخضع التنظير للتفاؤل أو التشاؤم، وإنما للحقيقة، فالمثقف مسؤول أمام الإنسانية. إن مصادرة التاريخ تجري لحسابات أيديولوجية أو لمستقبل لم يُصنع بعد وما زال في طور التأمّل، أو ببساطة في علم الغيب، أي أننا نجهله، ولو كان من الممكن الاستعداد له. لكن التفكير بعالمٍ مسالم ليس مستحيلاً، على ألا يكون متخيلاً، وأن يحمل نزراً غير ضئيل من الواقع، من عالم نعيش فيه بطمأنينة.

يصح القول إن الثقافة شيء، والمثقفين شيء آخر. فالثقافة أشبه بالمثال، بينما المثقفون موكلون بتحقيق أغراضه. ربما في مفصل ما من التاريخ قد يكونون أقلّ كفاءة وجدارة مما تنطعوا له. لكنهم، في معرفة أننا في عالم يرفض الموت ويجهد في تحسين شروط العيش، يدركون أن التفاؤل صناعة أيضاً.