لا تتحدّد روح المغامرة باكتشاف الجديد أو غير المعروف، كالتوغل في الغابات، أو كما في عصرنا، الهبوط على سطح القمر، أو نقل أخبار حرب دائرة تحت نيران الاشتباكات، ولا تمنع الأخطار المرتقبة من الإقدام على سبر المجهول.

بيد أن المغامرة لا تقتصر على الفعل الجسدي فقط، المغامرة الفكرية والروحية لا تقل عن المغامرة العملية، يجمعها معها الجرأة وعدم المبالاة بالعواقب، ولو كانت مجالاتها وآفاقها مختلفة، تتسع أحياناً إلى حد يفوقها إقداماً، أو تضيق بحيث تجاريها، فمثلما كانت المغامرات وراء البحار تحفل بالأهوال، كانت مغامرات العقل تتجاوزها في تغيير العالم نحو الرخاء، وربما نحو الخراب. وكل منهما لا تقل أهمية وخطورة عن الأخرى.

فإذا كانت المغامرة على اليابسة والمحيطات قد أدت إلى اكتشاف مناطق مجهولة في العالم، فالأفكار أيضاً دفعت إلى ارتياد آفاق الكون. لم يتوانَ المغامرون في دروب الفكر عن اكتشاف قارات داخل عقل الإنسان وروحه، وربما قارات مجهولة بمرمى بصره. تجسدت روح المغامرة على مدار التاريخ في عدة مجالات: السياسة، الحرب، الاستراتيجية، الفنون، العلوم، وجسم الإنسان والأمراض، إلخ.

لولا دون كيشوت لما كان للرواية مغامرتها الكبرى

ما زال اختراق المجهول غير آمن تماماً، قد لا يتحقق إلا بمخاطرة تذهب بروادها إلى الموت، كذلك نقض أفكار شائعة ومعتقدات قديمة راسخة قد تذهب بالخارجين عنها إلى القتل. فالمغامرون من الناحية الفكرية مثل كوبر نيكوس، وجيراردو برونو، وغاليليو، الذين غيّروا تصورنا عن الكون، الذي كان سائداً طوال أكثر من ألف سنة. لم تمضِ كشوفهم دونما عقاب. فقد دفع جيوردانو برونو ثمن آرائه العلمية والفلسفية غالياً بالموت حرقاً بتهمة المروق. لم تُغفر له أفكاره حول كروية الأرض ولا نهائية العالم. الفكرة السائدة هي أن الأرض مسطحة، والشمس تدور حولها، لكن برونو أثبت أن الأرض ليست مسطحة، ولا الشمس تدور حول كوكبنا. وفي عصور الظلام أيضاً، صدم غاليليو عصره، بعكس الشائع، وأثبت أن الأرض تدور حول الشمس، لكنه اضطر إلى التراجع أمام محاكم التفتيش لإنقاذ روحه.

لم تكن حظوظ الفلاسفة بالمجازفة أقل من غيرهم، على رأسهم افلاطون، وأرسطو، وديكارت، وسبينوزا. ويقدم كانط مثالاً نادراً على المغامرة في مجال الفكر. فهو لم يغادر مدينته الصغيرة قط، ولم يسافر إلى أي بلد، وبالرغم من التناقض الصارخ والعجيب بين حياته المملة والروتينية من جهة، ومدى جرأته الفكرية على نقض عقائد عصره، استطاع
اكتشاف عقائد أخرى بديلة، بحيث اعتُبر أحد كبار المغامرين في التاريخ، الذين يتحلّون بالتوق إلى التحرّر من الأفكار الجامدة، ودحض الآراء الشائعة، مع المقدرة على تحمل المخاطر جرّاء معارضة المجتمع. ولقد استطاع إنتاج أكثر من رائعة من روائع الفكر الفلسفي، يتوجها كتابه الشهير: “نقد العقل الخالص”، ما أحدث ثورة في مجال نظرية المعرفة والفكر الفلسفي.

لم يمضِ عصر النهضة في الغرب تلقائياً، كان وراءه من قاد المنعطفات الكبرى في مساره، ومهما كان رأينا في ماكيافيللي والاستهانة بالمقولات الأخلاقية، لكنه اكتشف القوانين التي تتحكم بالسياسة في كتابه المشهور “الأمير”. وفي تاريخ الأدب، يقف سرفانتس، المغامر الأكبر بالجسد والقلم فوق قمة شاهقة. فقد انخرط في سلاح البحرية الإسبانية، وشارك في المعارك الحربية، وفقد ذراعه، ثم وقع في الأسر، وحاول الهرب ثلاث مرات، وبعد أن افتدوه، وجد نفسه في إسبانيا بلا عمل. ومن حسن الحظ كتب رائعته “دون كيشوت دي لامانشا”.

لولا دون كيشوت، لما كان للأدب مغامرته الكبرى، إنها أعظم رواية مغامرة في التاريخ. مصدر تأثيرها صدقها المطلق، والطابع الجنوني الإنساني الذي لا يمكن فصله عن روح المغامرة والكشف عن تلك القارة المجهولة في داخلنا.