منذ بداياته، قدّم القرن العشرون بفتوحاته العلمية إمكانات هائلة لتحسين شروط الحياة، حتى أن بعض المفكرين، اعتبروه عصر تنوير جديد، شكّل منعطفًا حاسمًا أسهمت فيه العلوم والتقنيات والفلسفة بعملية تجديد كاملة للرؤية السائدة، لا تقلّ عن بداية جديدة للبشرية.

كان السؤال المطروح: كيف يمكن للعلم أن يساعد في السيطرة على الطبيعة؟ توالت الإجابات في مطلع القرن، من خلال ما استجد من اكتشافات علمية، إضافة إلى عمليات تجديد عديدة أدت إلى تغير عميق في مفهوم الزمان والمكان والمادة. تحديداً في عام 1900 أرسى عالم الفيزياء ماكس بلانك أسس الفيزياء الحديثة، وعرض أينشتاين عام 1905 “النظرية النسبية” ونشرها عام 1915 ما أحدث ثورة في العلم. وأعيد اكتشاف “قوانين الوراثة” لغريغور مندل والمعروفة باسمه. كما نشر سيغموند فرويد كتابه المؤسس لـ”التحليل النفسي” وأصبح أحد أهم المراجع في مجال علم النفس. ولا يستثنى الفن في هذا الحراك، فقد رسم بيكاسو أوّل لوحاته التكعيبية عام 1907 وأشهرها المعروفة باسم “فتيات أفينيون” ونسف أسس الفن، حسب بعض النقاد.

انعكست هذه وغيرها، خلال بضع سنوات وعقود على العالم بقفزات على صعيد التقنيات والعمارة وعلوم اللغة والحياة والإعلام والاتصالات وشتى الميادين الأخرى، ولم يكن الفن متفرجًا سلبيًا، فالسينما لم تكن لترى النور لولا التقدم في إطار علوم البصريات والتصوير، كما استفاد فن العمارة مما حققته التكنولوجيا الحديثة في الصناعات الحديدية والزجاجية.

تكاليف التقدم كانت باهظة على حساب الإنسان والحريات

كانت ثورة على صعيد أنماط الفكر والعمل، بشّرت وبشكل عملي، مبكر ولافت، بتنفيذ أول عملية طيران قام بها الأخوان رايت عام 1903، كذلك على صعيد قياس الزمن، ما شكّل أحد المعايير الأساسية في التفكير العلمي. إضافة إلى التقدم الحثيث في تطوير وسائل النقل في السيارات والقطارات.

أبرز مفاعيلها التي لم يجر الانتباه إليها في حينها، أنه كان لها نصيب في تطوير التطبيقات الصناعية والعسكرية. لم يكن العمل عليها متاحًا إلا للأكاديميين، ويجري في الخفاء، لأسباب تتعلّق بالأمن القومي، ستظهر نتائجه خلال الحرب العالمية الأولى.

ففي الحرب شهد العالم بداية استخدام الطائرات الحربية على نطاق واسع، تبدت أهميتها في تحديد مسار العمليات الحربية. كذلك تطوير العربات العسكرية والمدرعات ومن ثم الدبابات؛ ومن بنادق الصيد والمسدسات البدائية والمبارزات ستولد البنادق والمدافع… وبشكل موجز، رُفع أداء وسائل القتل والخراب. أصبحت الحروب مدمرة وعلى نطاق واسع، بات لها تأثير مرعب، نجم عما توالد عنها من أهوال، كانت من قبل تقع في المستعمرات، بينما أصبحت ساحاتها الأراضي الأوروبية، تجري بين شعوب” متحضرة” و”عقلانية”، لم يعودوا مجرّد سامعين لانتصاراتهم على الشعوب “السوداء الوثنية”، باتوا يكتوون بنيرانها.

لم تفلت قوانين الوراثة من التلاعب بها، ففي ألمانيا النازية دخل قانون القضاء على السلالات المريضة وراثيًا حيز التنفيذ عام 1934. أدى هذا القانون إلى السماح بقانون التعقيم، منح السلطة الصلاحية بتنفيذه على أي مواطن بالقوة، بحجة تحسين النسل، بإنشاء مجتمع متجانس قوميًا، وذلك بالتخلص من أي شخص يعاني من اضطرابات وراثية، يعتبر أقل قيمة من الناحية العرقية، أو الأجناس المعوقة والمشبوهة.

لم يشارف القرن على الانتهاء، إلا وباتت إمكانية الرقابة الدقيقة على الأرض بواسطة الأقمار الصناعية عملية مشروعة، ما يزيد من آليات السيطرة على البشر، فإذا كانت تساعد على التجسّس، فسوف تتعدى مع الوقت على خصوصية الأفراد.

هذه المكاسب العلمية الكبيرة ارتدت على البشرية بخسارات كبيرة، وإذا علت الأصوات تدين العقل والعلم، فلأن تكاليف التقدم كانت باهظة على حساب الإنسان والحريات. وإدراك أن غطرسة العقل هي غطرسة السلطات، وعمى العلم، لانفصاله عن القيم الإنسانية، أدى إلى المطالبة بالارتداد إلى حياة بسيطة في حمى الطبيعة البريئة، ما أوحى بعودة جان جاك روسو إلى الحياة، باستلهام “عقد اجتماعي” جديد يجمع بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع والأخلاق. ويمكن القول إن التنوير جاء مصحوبًا بالظلام.