من إيجابيات العولمة أننا اكتشفنا دولًا ومناطق كانت نائية، والتعرّف إلى شعوب كانت غير معروفة. ليس هذا فقط، بل ما انكشف من ثقافات متنوعة، وقيم متعددة، كنّا نجهلها سابقًا. ما دلّ أننا في عالم لا تفتقد فيه الشعوب ولا الجماعات بمختلف أعراقها إلى قيم أخلاقية، حتى القبائل التي تعيش في مجاهل أفريقيا، والمناطق المنسية والعشوائيات، وعصابات الجريمة كمافيات المخدرات. لكل منها قيم تفرض قواعد سلوكية، لن نناقش مدى صحتها، أو ملاءمتها للعصر.

وإذا كانت العولمة قد أكدت من خلال التواصل بين الدول على وجود تباينات ليس من السهل تجاوزها، من فرط تناقضها وغرابتها، لكنه خلق أزمة نجمت عن كثرتها، لا عن ندرتها، أي عن وفرتها، وتعددها الهائل، ما قد يخلق تصادمًا دائمًا، وتوافقًا مؤقتًا، لا يمكن الدفاع عنها، من دون نشوب خلافات.

تتأتى الخلافات من افتقاد البشرية إلى بوصلة أخلاقية شاملة، مع أننا نعيش في عالم واحد، ونتقاسم الكوكب ذاته، في وقت أصبحت العولمة تشدنا إلى حالة تعارف مستمرة، فلماذا لا نعمل على تشارك القيم ذاتها؟

يكاد يقتصر التدخل الإنساني على المساعدات والإعانات

تتشكل القيم عبر التاريخ، وبمقدار ما تتقدم، تتراجع أيضًا، وتخطئ الطريق، وتترسخ على نحو خاطئ، لكن هذه السلسلة من التشكل، إذا كانت على صواب، فبالنسبة إلى ماذا؟ هل هناك معيار صحيح أو مثال نموذجي؟ إذا كان فعلى البشرية الالتحاق به، لكن القيم متغيرة ومتبدلة تبعًا للزمان والمكان، فهي ليست نهائية ولا مطلقة. ومهما يكن فالتاريخ الإنساني، ليس واحدًا ولا موحَدًا، ومن العسير توحيده قسرًا، أو بأوامر عالمية، أو قرارات دولية، ولقد بذلت محاولات في المرحلة الاستعمارية، تحت عنوان التحضير، استعملت فيها البنادق والمدافع، ولم تفلح إلا بارتكاب ممثلي الحضارة مجازر ضد القيم نفسها.

احترام كافة الثقافات واجب لا ينبغي التساهل فيه، فهي لم تتكوّن عشوائيًا، وكان نشوؤها لأسباب اجتماعية تبلورت في عادات وتقاليد تراكمت وتوالدت وتحوّلت خلال الزمن، وإذا كان ثمة نوايا للتفاهم والنقاش حولها، فليس بالسخرية منها، أو إصدار القوانين ضدها، وتوقيع عقوبات وغرامات. فمثلًا احترام الحجاب يملي أيضًا احترام حرية الجسد، ولا يجوز فرض هذه أو تلك، وقد تتعلم القيم من بعضها بعضاً، إن للقيم حجيتها، فهي لم توضع أو تلغى بلا سبب، ومثلما جرى التمسك بها، جرى التخلي عنها لانتهاء ما أدى إليها، وربما في العودة عن شطط بعض العادات، اعتراف بأنها ضد قيم العصر الحاضر.

البشر في كل زمان ومكان، هم البشر أنفسهم، ويحصل الإجماع في التوافق على ما يضيرهم أو ينفعهم، وذلك بالاتفاق على مبادئ عامة، فالقتل محرّم في الديانات والشرائع في أقصى الأرض ومغاربها، ما يمكن التوصل إلى اتفاق حول إلغاء عقوبة الإعدام. كذلك مسائل التعذيب. التي لا تقرها القيم كلها، والعمل على إدانتها، وأن يتدخل العالم في حال خرقها.

يجب أن يكون للمسائل الأخلاقية المجمع عليها، أفضلية على المسائل السياسية المتغيرة. وينبغي الإصرار على سيادة البشر، لا سيادة للدول، حقوق الأفراد تعلو على حقوق الدول. إن ما يزعم عن حقوق الدول هو مصالحها التي غالبًا ما تكون تعديًا لدولة على دولة، تحكمها علاقات القوة.

إذا كنّا نريد أن نبني عالماً معولم القيم فالاتجاه الصحيح، هو نحو إجراء المزيد من التفاهمات الجدية، فهذا العالم بحاجة إلى قواعد سلوكية أخلاقية مشتركة. وريثما يجري قيام حوار جدي بين الثقافات يعاد فيها النظر إلى قيم مختلف عليها والعمل على التقارب بينهما، بالوسع اعتماد ما اتفقت عليها الأعراف والأديان والمذاهب والفلسفات وتاريخ طويل من النظر والجهد الإنساني.

فاليوم، تستباح في مراكز التوقيف والسجون، الحياة الإنسانية بمنتهى الوحشية، مع أنه مهما كانت أيديولوجية البشر أو دياناتهم أو حماقاتهم، لا يجوز بأي حال من الأحوال التعدي عليهم، وكأنه من المشروع للسلطة انتهاك كرامتهم وإذلالهم وتعذيبهم. بالتالي لا ينبغي أن تقف سيادة الدولة حائلاً أمام التدخل لأسباب إنسانية، ما يملي على المجتمع الدولي اتخاذ إجراءات صارمة حولها.

من جانب آخر، اقتصر التدخل الإنساني على المساعدات والإعانات، وكان ذريعة لعدم التدخل الفعلي، وهو تبرئة للذمة، لا تبرئة أخلاقية، وكثيرًا ما اختصر بإطلاق التصريحات، في وقت تستغل فيه الدول الباحثة عن دور التدخل لمساعدة الدكتاتوريات على البقاء ومشاركتها بالقتل علناً، وهو حدث يومي في سورية ومصر والكثير من بلدان المنطقة.