تعني “الواقعية”، في أحد تعريفاتها، أن العالم الخارجي شيء موجود بالنسبة للكاتب، يكفي أن يطل من النافذة ليرى البشر والشوارع والأبنية والسيارات، هذا إذا لم يتلفت حواليه، أو أينما اتجه، ليراه ولا يغيب عن بصره، حتى لو أغمض عينيه، فسوف يحس به.
هذا تعريف مبسَّط، لكنه مفهوم، ولنقُل إنه واقعي، ينبغي أن نأخذه على محمل الحقيقة، عندما نكتب رواية أو قصة، على ألّا نحاكيه، لكن يجب التركيز عليه، ما نأخذ منه، سنعيده إليه. نحن نكتب لأناس لا يجهلونه، وإن كانوا لا يعرفونه تمامًا، إنه ليس ما يتراءى لنا، بل أكثر، بحيث يصعب حصره، ثمّة ما لا يُرى بالعين المجردة، لكنهم يتعرفون من خلاله إلى أنفسهم والآخرين، وهذا الواقع الذي يعيشونه، ألا يرغبون بفهمه، وربما بتغييره؟ الواقع شيء جدّي.
بيد أن ما جزمنا به، يخالطه تعديل جوهري، يجدر بيانه لدى الشرح، وهو استحالة وضع الواقع تمامًا على الورق، صحيح أنه موجود، لكن سنقرأ عنه من خلال انعكاسه في ذهن الكاتب. فكل روائي أو قصاص ينظر إلى الواقع من زاويته الشخصية والذاتية مهما توخّى الموضوعية في تصوير المشاهد والوقائع والاحداث. بمعنى أوضح، تتداخل الذاتية والموضوعية بحيث لا يمكن الفصل بينهما في العمل الأدبي.
ينزع المفهوم الحرفي للواقعية عن الفنان رؤيته الذاتية
بينما هناك من يفهم الواقعية على أنها تسجيل فوتوغرافي للواقع الخارجي، وأبرز ما يتجلى هذا الانتقاد للفن، في معارضة الكلاسيكية والواقعية بالاتجاهات الحداثية في الرسم كالتعبيرية والتكعيبية والسريالية وغيرها. هذا المفهوم الحرفي للواقعية ينزع عن الفنان رؤيته الذاتية لموضوعه، ويعطل موهبته، لصالح جهد آلي، ينسف فكرة الإبداع الفني. وكثيرًا ما كان الجواب على هذا الامتحان: إن آلة التصوير تنقل صورة امرأة بشكل أدق من الرسم، بالتالي آلة التصوير تنقل الواقع أفضل… حسنًا، لكنها لا تغنينا عن الفن.
من أبرز الروائيين الواقعيين، الإنكليزي تشارلز ديكنز، والفرنسيّون ستندال، وفلوبير، وإميل زولا، ولا بأس بالتوقّف عند بلزاك، الذي كتب في رواياته عن مختلف أنواع الناس، والمشارب والمهن، لا سيما طبقة النبلاء، صوّرهم كبشر عاطلين عن العمل، كسالى غير منتجين، يعيشون على ألقابهم ومنبتهم الطبقي وسلالاتهم الأرستقراطية، لم يبالغ، كانوا هكذا في عصره، وتجرّأ على وصفهم بالطفيليين ونهازي الفرص عندما أخذوا بالتزاوج مع البورجوازيين، الذين اغتنوا بفضل عملهم وعرق جبينهم، بعدما كانوا يحتقرونهم، أقبلوا عليهم لما تمتّعوا به من ثراء. بذلك كشف بلزاك عن الخلخلة التي حدثت في تراتبية الطبقات لمصالح ضيقة لا عن اعتراف بالحق في ردم الفوارق الطبقية، ما كشف عن تحولات المجتمع في القرن التاسع عشر بعد الثورة الفرنسية.
وإذا كان النقاد قد اعترفوا بواقعية بلزاك، وما امتلكه من معرفة دقيقة بحقائق عصره وأحداثه، فإنهم اعترفوا أيضًا بما أضفاه على الرواية الفرنسية من حساسية شعرية. ففي غمار وصفه تفاصيل الحياة اليومية في رواياته بشكل دقيق جدًا، تنساب الشاعرية عميقة في تلافيف تصوير المجتمع.
كان بلزاك يدرس عادات عصره وتقاليده كما يدرسها، ربما علماء الاجتماع، فكان أشبه بأنه يوثق لزمن يستوقفه قبل الرحيل، مع أن التوثيق شيء والرواية شيء آخر، ما فتح ساحة إضافية للرواية في التأريخ لزمانها. كان بلزاك في الوقت نفسه، ينظر إلى سريان الزمن بعين الفنان ويخلع عليه رؤيته، ويحوّل الواقع إلى مثال يختزن عصرًا بتقلباته وتوجهاته، عندما يصوره بكل دقة في رواياته.
إن مأثرة الواقعية في الرواية تتبدى في ما لحقها من تطوّر في النظر، لم تقف عند السطح بل غاصت في عوالم البشر الذاتية إلى حد يمكن أن نطلق عليها الواقعية النفسية، تتجلى في تداعيات تيار الوعي. وقد يستخدم الأساطير والسحر والعجائب، أو يذهب إلى الماضي – فالواقع لا يقتصر على الحاضر – بل وإلى المستقبل، كمخاطرة في الكتابة عمّا سيطرأ على كوكبنا أو الكواكب الأُخرى. كل هذا أصبح يصب في الواقعية، غدا من أدواتها، ومصدر ثرائها. في دفاع بلزاك عن الواقعية تعريف بها: ليست مهمة الفن أن يقدم نسخة طبق الأصل عن الواقع. إن في التعبير عنه بشكل فني، ما يكشف عن لغزه وأسراره.
-
المصدر :
- العربي الجديد