اعتقد الروائي الإنكليزي تشارلز ديكنز أنّ كلَّ شيء سيكون على ما يرام “لو أنّ الناس تصرّفوا بشكل لائق وصحيح، عندها سيُصبح العالم مكاناً لائقاً ومحترماً”. بعد نحو قرن، في سنوات الحرب العالمية الثانية، سيكتشف جورج أورويل، صاحب رواية “1984”، الروح الوطنية الإنكليزية القائمة على ما يسمّيه “تعامُل عامّة الناس في ما بينهم بطريقة لائقة ومحترمة”.

يُحدّد أورويل حالة غريبة في زمن يفرِض أنظمة قاسية، تُطاول مختلف الناس في حياتهم اليومية خلال الحرب؛ يَضيقون خلال النهار من تعليمات الدفاع المدني، والتدافُع على السلع الاستهلاكية، في ظلّ إجراءات التقنين، وفي الليل من تعليمات التعتيم الواجب العمل بها للوقاية من الغارات الجوّية. لذلك ليس غريباً ملاحظة أنّ صبر الناس ينفد، وينفّسون بالشجار عن غضبهم من أتفه الأمور. من جانب آخر، نشهد أقصى حالات التعاضد والتعاون بينهم، مع الثقة بتحذيرات الدولة. وهو ما دفع تشرشل للتفاخُر بأن بريطانيا لم تشهد سوقاً سوداء طوال الحرب، نظراً لانضباط الشعب وتقيّده بتوجيهات الحكومة.

تمتَّع البريطانيون بهذه الميزة خلال الحروب التي امتدّت إلى جزيرتهم. هكذا شعب مطيع يتقيّد بالقوانين، لا ينفع للروايات المثيرة، مع أنّ الرواية في العالم مَدينة لهم، مع هذا قد يصحّ ما يُنسب إليهم من برود يتّصفون به، بينما لا يزيد عن دعابة أو دعاية، كذلك ترويج وصْف مدينة الضباب عن لندن، مع أنّ هناك من قضى عشر سنوات فيها، يُنكر وجود الضباب لأنّه لم يصادفه طوال وجوده، ما يحيلنا إلى أنّ الضباب لزوم الأفلام، فجاك السفّاح كان يقتل ضحاياه من النساء، ثم يختفي في الضباب. يكاد لا يخلو فيلم بريطاني يدور في العهد الفيكتوري أو الإدواردي من الضباب، لإضفاء الغموض أو الرعب، وأحياناً الرومانسية، فالسير في الضباب يحتمل الخطر، لكن إذا كان من يسير فيه حبيبَين، فقد يصلح الموقف للعناق، على هدهدة موسيقى حالمة.

في الواقع، يبدو ما سبق وكأنه ليس الواقع، فالحرب العالمية الثانية كانت من أقسى الحروب، وما ارتُكب فيها من جرائم، جعل تشرشل يغضّ النظر عن السوق السوداء. أمّا الضباب فيذكّرنا أيضاً بالدكتور جيكل ومستر هايد، هل يعقل أنّ الضباب انسحب من لندن، بينما ما زال يرتع في الروايات والأفلام؟ هذا إذا كان الكلام عن عالم لا نعتقد بوجوده، أو أنه تبخّر كالضباب. لكن لنعد إلى الحرب العالمية التي استمرّت نحو خمس سنين، بينما تجاوزت الحرب في سورية عشر سنين، وضاق الناس بها من فرط الغلاء وفقدان الغاز وندرة الكهرباء وتقنين الخبز. عدا الموت والاختطاف والاعتقالات والنهب، ونظام ارتكب من الجرائم ما سيحوّل القرن الجديد إلى مسلسل دموي، بداياته في العراق وسورية.

لن يذهب البشر بعيداً ما داموا على ظهر هذا الكوكب

يُخيَّل إلينا أنّ العالَم في تقدُّم مستمرّ، لا البشر، أي أنّنا نحن الذين نعيش في هذا العصر، أصبحنا ندرك أنّنا متخلّفون عنه، من فرط اتّساع مجالات استخدام الفضاء الافتراضي، وكأنه سيصبح هو الحقيقة بينما نحن الافتراض؛ فالروبوتات المزوَّدة بالذكاء الاصطناعي مؤهَّلة لتحلّ محلّ البشر. إذاً، أين سيذهب البشر؟ لن يذهبوا بعيداً ما دام أنّهم على ظهر هذا الكوكب الذي بات كئيباً.

هل يستطيع الأدب أن يجد حلّاً للحروب مثلاً؟ في الحقيقة ليست مشكلة الأدب، بل مشكلة الأدباء، بالتالي لا حلّ مرتقباً، الأدباء عاجزون عن إيجاد حلول لمشكلاتهم الشخصية، وإلّا لم ينكفئوا، ويكفّوا عن الكتابة تكفيراً عن طموحاتهم الملوّثة بالأمجاد.

ما يُفسّر قيام الحروب هو التنازُع على الثروات، أي على المستعمرات، هذا ما كانته، لم تحصل متغيّرات كثيرة. باتت التنازُع على ثروات البلاد التي كانت مستعمرات، فهي لم تتحرّر، لكن تُركت لأقدارها، فأصبح التحكّم بها أسهل.

كان النهب استعمارياً فقط، فأضيف إليه النهب الداخلي، وهو أن تقوم جماعة من العسكر بالاستيلاء على السلطة، بالاستناد إلى أيديولوجية ما، في زمن كانت الأيديولوجيات متوافرة بكثرة، مع تنويعات؛ قومية، واشتراكية، وشيوعية، ورأسمالية، وليبرالية؛ لا ننسى أنّ لكلّ نوع منها أعداء وعملاء ومنشقّين ومحرّفين، وأيضاً مثقّفين، أُضيف إليهم مؤخّراً الشبّيحة، فالاحتراف يتطلّب القتل، ولو كان النهب هو المقصود، وبالضبط أن تكون ناهباً، لا منهوباً، ما يقتضي نهب الشعب، ثم الالتحاق بالاستعمار القديم، ولو أنه جرى تحديثه، أي تصبح من الناهبين المعترف بهم.

هذه تداعيات تبدو لا رابط وثيقاً بينها، لكن الرابط أوثق مما نظن، وهو قصّة تيار الوعي الذي ابتدعته الرواية، ولم يوفّره جيمس جويس وفرجينيا وولف ووليم فولكنر وغيرهم، ومهما عانى من التشتّت وعدم التركيز، والانتقالات غير المنطقية، فهذه طبيعته، لكنّه يكشف حقائق عن النفس البشرية. غير أنّنا في هذه التداعيات تجاوزنا النفس إلى الواقع، وهو ما يحبّذه الوعي، وإلّا كان غائباً عنه.