هل الخيال على تضادّ مع الواقع؟
إذا كان الواقع ينفي الخيال، فالخيال ينفي الواقع، كأنما إمّا هذا أو ذاك. هل هذه أطروحة؟ وإذا كانت أطروحة فهي فاسدة فساداً مطلَقاً، فلولا الواقع لما كان الخيال، وإن كان أفلاطون لا يرتاح لهذا التطرُّف. حسب اعتقاده، فإن الخيال نوع من الرفاهية، فالوقوف على الأرض يختلف عن التحويم في السماء، وأن تتخيّل فأنت في حالة من الرفاهية، مع شعور بالمتعة، لكن الخيال يمنحنا المتعة ونحن نمشي على الأرض، وليس فوق السحاب. اعتراضُ أفلاطون يتلخّص في أنّ الخيال يتعامل مع الأوهام، يخادعنا ويشتّت انتباهنا عن الواقع ويُضعف قدرتنا على التفكير فيه. لكنّنا سننحاز إلى أرسطو الذي قال إنّ الخيال هو أحد أسس المعرفة.

يُخطئ من يرى الخيال وهماً منفصلاً عن الواقع، أو تهويماً مجرّداً لا يُدرك. فالتخيُّل، ليس كما قد نعتقد؛ إنّه القدرة على الاكتشاف. لم يكن للبشرية إعمال العقل في الكون من دون خيال يساعد على تفسيره، سواء بالخرافات، أو ابتداع الأساطير، ما يعلّل قصف الرعد ونزول المطر وحركة الأمواج وهبوب الرياح على أنها ألعاب آلهة الطبيعة العابثة بالبشر، والمتنافسة على الجمال واللهو، بيد أنّ الخيال نفسه لم يستكن للآلهة، ولم يكفّ العقل عن رصد جزئيات تبدو متناثرة، منحته الوشائجُ بينها أسباباً أكثر صلابة لحياة تمضي ليس كما اتّفق، بل بالعثور على روابط بينها، راكمت معلومات واستنتاجات، ولو كانت عرجاء، نشأت عنها مع الوقت أنماط ومفاهيم، ومن ثمَّ فرضيات، فنظريات، فقوانين تلتها نظريات، شكّلت سلّماً صاعداً نحو حقائق، لولا الخيال لما كانت. لو اكتفت البشرية بالواقع وحده، لبقي الواقع على حاله، والبشر على حالهم، الخيال هو الذي قرأ الواقع، ما أسهم في تغييره.

لم يكن للبشرية إعمال العقل في الكون من دون خيال

يُغذّي المبدعون الحياة برؤاهم وخبراتهم، لامتلاكهم القدرة ليس على رؤيتها بشكل أكثر ثراء، ولكن أيضا تخيّلها على نحو آخر، وتخليق أشكال أُخرى، فعدم القبول بها كما هي، ليس عن رفض اعتباطي، بل بفعل الخيال الذي يمنحهم تصوُّرات ليست بديلة عنها فقط، بل الحياة ذاتها، لكن مع فهمها على نحو أعمق، وإدراك ما تختزنه، وإظهار ما تحتويه ويكمن فيها، وإن لم يكن في إسباغ الجمال عليها سبقٌ مؤكّد، طالما الطبيعة تضجّ بالجمال.

ليس للواقع حدود، فهو مثل الخيال بلا حدود، كلاهما مفتوحان للأخيار والأشرار. فإذا كان العالم يلهم الجميع، فالأخيار يتخيّلون على أرضه العدالة والمساواة، بينما الأشرار يتخيّلون السلطة والتسلُّط، ومثلما تأتي الديمقراطية من الخيال، تأتي الدكتاتورية من الخيال أيضاً. فالتخيّل، هو إمكانية وجود، ومثلما يكتشف الخير لا يخفي الشر، إنه إمكانية وتمكّن، يصنع الحرية والعبودية. هنا على الأرض وفي هذه الحياة.

قد نعتقد أنّ عمل الخيال في الأدب هو الأبرز، والأكثر فعالية، يتجلّى في الشعر والنثر والفن، لولاه لما كانوا، ونستطيع القول إنّ ما يدور من أحداث متخيّلة في الروايات مدينة له، أمّا الأفلام الوثائقية الأبعد عن الخيال، مهما كانت موَثّقة، غير موثوقة تماماً، لا بد أن ينقصها شيء ما، فيتدخّل الخيال. كذلك المؤرّخ مع التاريخ، يضطرّ إلى تخيُّل الماضي ليسد ثغراته. وأيضاً العلم، لا قيامة له من دونه ولا استمرارية، إنّه وقوده. آينشتاين العبقري تخيّل نظريته النسبية قبل أن تكون، واعترف أنه لا إبداع من دون خيال. لم يكن هذا الابداع المذهل إلّا من تصوّرات، أكّدها بقوله “إن العلامة الحقيقية على الذكاء ليست المعرفة بل القدرة على التخيّل”، ومثله المسرحي والموسيقي.

ليس الخيال حكراً على مهنة دون أُخرى، إنه مشاع، لكنه لا يأتي من فراغ، ولا يتحرّك إلّا على الأرض.