لم تكن نظرية رولان بارت عن موت المؤلف تعني سوى الإعلان عنه، فالمؤلف ميّت، وإن كانت في قتله غيلة، بعدها بات الإجهاز على الكُتّاب فردًا فردًا تحصيل حاصل، سواء احتجوا ضده أو التزموا الصمت، فالحكم الصادر من أبرز منظّر للأدب في فرنسا التي تقود التقلّبات في عالم الأدب، ولو كان بالصرعات والتقليعات، ما دام هناك من يصغي ويتلقف ما يرد منها، ويمشي في ركاب الطليعة الفرنسية، ويا ويل من لا يحتذي خطواتها؛ مصيره الإبعاد عن جادة الجديد، مع أنّ فرنسا لم تمنح الرواية بعد بروست إلّا النزر اليسير، ولم تفلح موجة الرواية الجديدة في بثّ الروح فيها، بقدر ما جرى تجميدها، فجوائزها السنوية للرواية لم تحسن سوى الضجيج والدفع لرفع المبيعات، وللذكرى، حتى بروست لم يحتفِ به زمانه.

لماذا موت المؤلف؟ يبدو أنّ موته ضروري، فالرواية مثلاً كعمل فني، بمجرّد صدورها تصبح مستقلة عن كاتبها، وملكاً للقارئ، وتغدو خاضعة لعملية القراءة، وعلى القارئ يقع عبء اكتشاف المعنى، الذي لا يقتصر على ما قصده المؤلف الذي انتهى دوره، بل للقارئ،حسب اجتهاده وفهمه، أن يسبغ عليها معنى قد يكون نقيض قصد المؤلف، وهو الأغلب، ولا مشكلة طالما أنّ المؤلف مات عقب صدور كتابه.

وكأننا نكتب لهؤلاء الذين سيسلبوننا رواياتنا

وللتوضيح، يشارك القارئ في إنتاج نص، ربما كان موازياً أو مختلفاً وربما مغايراً عن نص الكاتب، فدوره مستقل، ولا يقل أهمية عنه، بل يزيد، فمن خلال قراءته، يمتلك القرار في إسباغ المعنى الذي يجد صدى في داخله، مسترشداً بالكتاب من دون التقيد به، أي يستخلص المعنى من خلال ما يثيره فيه، أو ما يخطر في ذهنه حوله، وهو ما سيحصل مع أي قارئ آخر، بالتالي، نحصل على قراءات للنص بعدد القراء، فتتكاثر المعاني، ولا يشترط المعنى نفسه في العمل الفني، وإنما حاصل التفاعل بين النص وقارئ معين، وإن كان سيختلف من قارئ لآخر، أي أن النص سيتعرّض لاكتشافات متعددة ومتجددة، قد لا تقف عند حد، وطالما يُقرأ، فالقراءات لن تكون إعادة وتكراراً لما سبقها، قد تتجاوزها إلى قراءات إبداعية بديلة، وذلك حسب الظروف التي قرئت فيها، ومن بلد لبلد، ومن زمن لزمن. فالنص مثل ما يبحر في المكان يبحر في الزمان، باحثاً عن تجليات جديدة. لن يخضع النص لأي تصوّر أو يمسّه تحديد، إنه طليق، يملك نفسه، ولا يمنحه إلّا للقارئ، وللقارئ الحرية في استقباله وطريقة تلقيه، وإنتاجه من جديد، ثانية وربما أكثر.

ترتبت نتائج مهمة على أطروحة بارت، تمثل أهمها في إلغاء المؤلف، كان أفضل تعبير عنها: موته المفروغ منه. لم يعد ثمة مؤلف، بل النص ولو كان من إنتاجه، وأعطيت الأهمية الكبرى للقارئ من دون تحديد، من خلال ما يحصل بينه وبين النص خفية، سواء أحدث أثراً أو تبخر وتلاشى، فالمهم العلاقة بينهما. ما يضفي عليها نوعاً من القداسة، لا يشارك بها المؤلف، فالسلطة ليست له بل للنص، والأهمية للقارئ لا للمؤلف.

يا ويل من لا يحتذي خطوات الطليعة الفرنسية في ثقافتنا

لا تبدو هذه الأطروحة التي تبدو موثوقة، وجرى الترويج لها بكثير من السفسطة، بالنسبة إلينا نحن الذين نكتب، وكأننا نكتب لهؤلاء الذين سيسلبوننا رواياتنا، وفي حال كان لهم الحق في تأويلها كما يشاؤون، فهذا لا يعنيهم وحدهم، بل يعنينا أيضاً، ولنا الحق في الدفاع عما كتبناه، وليس حقهم حصرياً، لأنّهم اشتروا كتابنا، فهم لم يشتروا جهدنا. مع الأخذ بالاعتبار، إذا كان هناك من سيحاسب عليه سواء من الرقابة أو سلطة ما، أو حتى في يوم الحساب، فهو نحن وليس هم.

إنّ موت الكاتب أو حتى تهميشه، لا يُحلّه من المسؤولية عنه. ولا يمكن للكاتب الادعاء أمام الرقيب أو المحقق، في هذا العالم العربي على سبيل المثال، أنّ هذه الأطروحة القادمة من فرنسا تبيح له التنصل من كتابه، وإذا كان، فعليه لملمة القرّاء والتحقيق معهم حول المعنى الذي نتج عن تلقيهم الكتاب وتفاعلهم معه، وماذا دار في رؤوسهم من أفكار شريرة؟

تصلح هذه الصورة الكاريكاتورية رواية فانتازية، عن نظرية ينبغي تسويقها لرقابات العالم قبل الأوساط الثقافية كي تجد بؤرة صالحة للنقاش حولها، هذا إذا كانت تعنينا، من موت المؤلف، النجاة من الاعتقال، وربما من الموت فعلاً، لئلا يموت مرتين.

وعلى الرغم من طرافة دعوانا، فما زال المؤلف ميتًا لدى بعض المنظرين، وليست لديهم النية في إحيائه، بل جرى استئنافها بسلسلة تعتبر متوالية من تكريس التمويت المتواصل، يمكن وصفها بالمجزرة، فالتنظير لا يفتر عن استخدام الموت، فمات الناقد والمؤرخ والصحافي والشاعر، ثم الإنسان!

السؤال، ماذا يعني المؤلف إزاء موت الإنسان؟ لذلك كان لا بد، من أجل تشييعه، الإعلان فعلاً عن اقتراب وفاة العقل، فالذكاء الاصطناعي سيحلّ محله.

تعقيباً على كلّ ما ورد، لا بأس من التذكرة بأنّ المؤلف لم يمت، ما زال حياً يكتب… عاش المؤلف.