تُثار، بين حين وآخَر، لدى رحيل مثقّفٍ معروف، سواء أكان أديباً أم مُفكّراً، ضجّةٌ في وسائل التواصُل الاجتماعي، كذلك في الصحافة، وإنْ بحدّة أقلّ، ومثلما يُرثى وتُستعاد محاسنه، ويُذكَّر بمكانته، تحفلُ تلك المواقع بالقيل والقال عن مساوئه أيضاً. هذا النمط أصبح شائعاً، يتكرّر على وقع اختطاف الموت لأحد هؤلاء الذين كانت جهودُهم نتاج مواهبهم، وأثارت إنجازاتهم الكثير من الجدل والامتنان في حياتهم. واليوم مهما كان تقييمهم، فليس نهائياً، غالباً عبارة عن ردّ فعل متسرّع، يحتمل الكثير من الأخذ والرد.

لا بأس من الاعتراف بأنّنا مدينون لهم، ليس كلّنا، ما دام هناك غاضبون عليهم، أو من يعتقدون أنّهم خُدعوا بهم، وهناك من اعترفوا بقيمتهم وفاءً لأياديهم البيضاء على إثراء ثقافة مرّت في أزمنة صعبة، أو النقد على ثقافة لم يُسهموا إلّا في تدهورها.

الأسماء تتكاثر، منهم مهدي الجواهري ونزار قباني وسعدي يوسف والطيب تيزيني ومؤخّراً مظفّر النوّاب… وأصاب رشّاشها الأحياء ومنهم أدونيس. احتدم الخلاف حولهم، أغلبهم لعب الموقف السياسي والطائفي دوراً في إدانتهم، أو تبجيلهم. والملاحَظ صدورُ أحكام قاطعة بشأنهم، ترجّحت بين السلبي والإيجابي، أو الخير والشر.

اتّخاذُ موقف من هذا الخلاف، ليس بالأمر البسيط، بعض التعقيد ضروري في التعرّض إليهم، فالحقيقة ليس أنّها ملتبِسة، لكنّها اختلفت من وقت لآخر. إنّ مراعاة العدالة بشأنهم تُطاول الحقيقة نفسها، لأسباب لها علاقة بالظروف المتغيّرة والأزمنة المُضطربة، حتّى لو أردنا – تسهيلاً لنا – تحديدها بالأبيض والأسود، ومعهما الرمادي الذي برعَ فيه الكثير من المثقفين بالاختباء وراءه خلال السنوات الأخيرة.

قبل الخوض في قضية شائكة، فلننزع عنهم ما يحيط بهم من هالات، ولننظر إليهم على أنّهم بشر يُخطئون ويصيبون، ويرتكبون حماقات. حياتُهم لا تخلو من فضائح، فلا الذين ينزّهونهم على صواب، ولا الذين يمرّغونهم في الوحل على حق. من حسن الحظ أنّ سوية الاتهامات لم تمسّ السلوك الأخلاقي، وإلّا دخلنا في متاهة، قد لا ينجو منها سوى القلّة، بل اقتصرت على السياسة، باتوا معرّضين للاتهام بالطائفية والخِيانة والركض وراء مصالحهم، والتضحية بالمبادئ، والانحياز للطّغاة، وهي اتهامات لا يُستهان بها، فإذا جرى التسامُح مع أخلاقياتهم على أنّها نزوات، فلا تسامح مع مواقفهم السياسية.

كثيرٌ ممّن وقفوا مع فلسطين صاروا يؤيّدون التطبيع أو يصمتون عنه

في الماضي القريب، لم يُخفِ أدباؤنا هويّتهم القومية، ولا انجذابهم إلى قضايا أيديولوجية، كانت في زمانها ذات حُظوة، غير أنّهم انقلبوا عليها، أو أُدينت، أو طواها الزمن، فالكثيرون من الذين وقفوا مع النضال الفلسطيني، أيَّدوا التطبيع أو صمتوا عنه، مع أنّ القضية الفلسطينية ما زالت قضية العرب. كذلك الذين هلّلوا للمقاومة والممانعة، اكتشفوا أنّها لا تزيد عن شعارات، أو أنّها ما زالت سارية المفعول، وإنْ بلا مقاوَمة ولا ممانَعة، كذلك الذين ظهر أنّهم طائفيّون حتى العظم، بينما كانوا من قبلُ اشتراكيّين وشيوعيّين، إن لم يكونوا أمميّين حتى العظم.

سمح فضاء وسائل التواصل للكثيرين من مختلف المتدخّلين، بعقد محاكمات ساخنة ولو كانت افتراضية، تتالت الاتّهامات مع الشتائم، تراوحت بين فضح مواقفهم، أو الترفّق بهم والتبرير لهم، وربّما المبالغة في بصيرتهم المُستقبلية. وكان كشف الحساب طبقاً لمعايير زمننا، وتجاهلوا أنّ الأديب عدا أنّه مرّ بأكثر من زمن، صانع كلمات، يتأثّر بقضيّة فينضوي تحتها ويشيد بها، وكان هناك وقت احتضنت الأنظمة التقدّمية الشعراء، فاعتلُوا منابرها وصدحوا بأشعارهم من فوقها تحت رايات الحزب الواحد. في زمن لم يكن هناك سوى تقدّميّين ورجعيّين، فالعالَم العربي، كان منقسِماً إلى دول تقدّمية ورجعية، فهجا مظفّر النوّاب والجواهري الأنظمة الرجعية، وصفّق لهم وأحبّهم مئاتُ الآلاف، ألهبا حماسة الجماهير وصنعا وجدانها.

ثم انقلب الزمن، فلم يعد التقدميّون تقدميّين ولا الرجعيّون رجعيّين، بات هذا مثل ذاك، لذلك ليس من العجيب أنّ مظفّر النوّاب الذي لم يوفّر رجعيّة بلدان النفط، مات في الشارقة، ولا أنّ سعدي يوسف الشيوعي مات في بلد رأسمالي. فوضعوا مُحبّي أشعارهم في مواقف محرجة، إن لم يكونوا قد تغيّروا مثلهم.

لم يخلُ تاريخ الأدب من أدباء بعثوا الحيرة في نفوس الناس. فلننظُر إلى الكبار من شعرائنا القدماء، ما زال المتنبّي حتى الآن بين الأخذ والرّد، يُنتقد ويُمتدح، فإذا امتُدح على أدبه، لا يقصّرون في إدانته على تزلّفه لأُولي السلطان، ألم يقف على أبواب سيف الدولة وكافورالإخشيدي، يسألهم أعطية. أَوغلَ المتنبّي في جشعه، وكان طمعه سقطةً كبيرة في حياته، لكن أيّ استهانة بعبقريّته خسارةٌ لشاعر عظيم.

ولِئلّا نقولَ إنّ هذه الجوانب المتناقِضة مقتصرة علينا، بينما هي طابع عالَم الأدب والأدباء في العالَم، فتاريخ الأدب الغربي يغصّ بأمثالهم، لا يفلتون من مقصلة النقد، ومع هذا مكانُهم محفوظ في التاريخ، يشفع لهم، ما أسهموا به في تقدّم الإنسانية، من دون التسامُح مع أخطائهم وزلّاتهم.

يجب التمييز بين مواقف كتّابنا السياسية، وإذا كان هناك ما يُدينهم فليُدانوا سياسياً، وألَّا تُغبن قيمتُهم الأدبيّة من جرّائها، وإنْ كنّا نعتقدُ أنّ الأدب لا يَخلو من تأثير السياسة، لكنّها تتضاءل أمام مواهبهم.

نقول لا حصانة لأديب، هؤلاء شخصيّات عامّة. شاؤوا أن يكونوا مشاعل لنا، ومهما كانت هذه المشاعل، فهم رموزنا يعبّرون عن أخطائنا وربّما جرائمنا، ولكي تكونَ أحكامُنا أقرب إلى العدالة، لا بدّ أن تؤخذ إنجازاتهم بالحسبان.