حاز كتاب “نظام التفاهة” للكاتب الكندي آلان دونو على سُمعة طيّبة في بلادنا، نستطيع العثور فيه على الكثير من عوامل تدهور السياسة والثقافة، أسباب ما نعاني منه، ليس لأنّ التفاهة منسوبها مرتفع في مجتمعاتنا فقط، لكن من استشرائها، فالملاحظ أنّها أصبحت مرضاً شائعاً في جميع المجتمعات والبلدان الغربية أيضاً، وكأنّها سِمة إضافية من سمات العصر. أوضح ما تكون، في ما كشفت عنه، وسائل الاتصال الاجتماعي المفتوحة على مصراعيها للجميع دونما تمييز، ما أتاح أكبر وأوسع استعراض للتفاهة، الأمر الجيّد أنّها لا تخلو من نقيضها الساعي الى التصدي لها، عسى أن يتغلبَ عليها. فهذه الوسائل ليست شرّاً، ما دامت أنّها تسمح بخوض المعارك على ساحاتها.

الواضح انتشار التفاهة على جميع المُستويات، دونما تخصيص بفئة أو طبقة أو فرد، سواء تحلّى بها مسؤولٌ رفيع أو رجلٌ من الشارع، بمعنى ما فإن ديمقراطية التفاهة، تجمع الأواصر بين مشارب مختلفة. وإذا كُنّا سنقتصر على المتعلّمين من الأنواع المثقّفة، فلأنّ النسبة في ازدياد، بينما في الأوساط الأُخرى منخفِضة بالمقارنة معهم، أي الناس العاديّين الذين اعتادوا على التصرّف ببساطة بلا أقنعة، ولا يسمحون لما يبذلونه من جهد وعرق، الاتّكاء على ما يُضيّع تعبهم.

يدعم التافهون بعضَهم بعضاً فتتضخّم سلطتُهم باستمرار

نستطيع بسهولة تمييز التافه من الإنسان الجادّ والطيّب، والذكي من الأحمق، بينما المثقّفون أمرهم مختلِف تماماً، فالتفاهة مُحصّنة بقدر كبير من المُجاملات والرِّياء والنفاق والتزلُّف، ومُجنّدة بمقولاتٍ ذات جُرعاتٍ دَسمة من المثالية والأخلاقية، مؤطّرة بكاريزمية ثقافية مدَّعاة من لغو الكلام، تحمل الكثير من المُخاتَلة والمراوَغة، تتمظهر على أنّها تعامُل راقٍ ينمّ عن الرِّفعة والترفُّع، فالذين يكذبون إنّما يكذبون عن دراية، وحتّى عندما يمارسون التفاهة فليس اعتباطاً، بل عن أصالة، ويُصدرونها على أنّها من القيم صرعة العصر الأخيرة، ولا يفتقرون إلى الجديد دائماً.

يلفتُ آلان دونو نظرنا إلى ملاحظة تدلّ إلى أنّ تكاثرهم، وكذلك تعاضدهم، ليس عشوائياً وإنّما عن بصيرة مصلحية ثاقبة، ولا مفاجأة في قوله: “لقد تبوّأ التافِهون موقعَ السّلطة، أي أنّ جهودهم تثمر باحتلال مواقع مهمّة في المجتمع والدولة”. ثم يتساءل: “ما هو جوهر كفاءة الشخص التافه؟” هذا التساؤل يحمل إمكانية انكشاف التافه وفضحه، وسبب استمراره، وبسط هيمنته، ولو كان في وسط يعسر وجوده فيه. الجواب ليس صعباً، إنّه في قدرته على التعرّف على شخص تافهٍ مثله، أي تشكيل محور ثقافي تافه في وسط، كان ينبغي ألّا يحتوي على تافهين، قد يشكّلون مع الوقت مركز ثقل فيه.

يدعم التافهون بعضَهم بعضاً، فيرفع كلٌّ منهم من شأن الآخر، لتقعَ السُّلطة بيد جماعةٍ تَتضخّم باستمرار، لقد أصبح لها مكانة. ما يُشكّل مُجتمعاً طارداً لأصحاب القيم والعِلم والرأي، إذ لا مكان لهم بينهم. فالزائف مانع للحقيقي، مثلما المُنحَطّ مانع للأخلاقي.

ما يؤكّد، ألّا تافهَ يعمل مُنفرداً، يستحيل ألّا يجمع صاحب سُلطة تافه مِن حوله إلّا أمثاله، فلا نقول إنّ السُّلطة أو الرأس في سلطة ما، بريئة من التفاهة، بينما الذين حولها تافهون؛ بل البِطانة السيّئة تلتفُّ حول متسلِّطٍ تافه.

الزائف مانع للحقيقي مثلما المُنحَطُّ مانع للأخلاقي

ليستِ المُشكلة في أفراد تافهين، وإنّما في مُجتمعات التافهين المتضامِنة والمتراصّة والمتفاهِمة، تربط الأواصرَ بينها قنواتٌ من المصلحة، ما يشكّل بحق “مافيا التافهين”، عبارة عن دوائر مغلقة، وهي ليست جديدة، ففي بلادنا انتشرت بعدما استعارت مصطلحاً محلّياً بريئاً “الشّللية”، واكتسبت سُمعة مرموقة في أوساط الأدباء، تبدو كما تشيع عن نفسها تيّاراً أدبياً صاعداً، طليعياً ومُبدعاً في الحياة الثقافية. فالناقد التافه يجمع حوله بضعةَ أدباء صغار يطمع إلى تحويلهم إلى تافهين، ويسوّق لتنظيراته السخيفة.

مافيات لا تقتصر على الأدب، بل تتمدّد إلى الصحافة والسياسة، فإذا جلسوا حول طاولة في مطعم أو مقهى اعتقدوا أنّهم مركز حركة البلد والمجتمع الذي ينتمون إليه، لمجرّد أنّهم يُمارسون النميمة. فما بالك إذا كانوا من صُنّاع القرار، أو من الحلقات الضيّقة في أعلى المُستويات، أو من رجال الأمن، فلنتخيّلْ أيّ زمن سنعيش فيه، وفي الواقع نعيشه، من أساليب المراقبة والتنصّت والتعذيب، لن يكون فحوى اجتماعاتهم أكثر من استعراض مهاراتهم الأَمنيّة، ولا يُشترط أن يعملوا بالتوجيهات، لماذا؟ لأنّهم يتوقّعون ما هو مطلوب منهم، فينفّذونه بأحسن ممّا لو هبطت عليهم التعليمات من المركز، فالعَقلية نفسها، فلا يخطئون، كما أنّ التفاهة تستدعي التفاهة. هذا من طبيعتها كما طبيعة الأشياء.

إذ تصبح التفاهة أسلوب حياة وعمل، وتنتشر في المجتمع على أنّها قيمة رائجة.