لا تقتَصر النُّخب على النُّخبة المثقّفة والنُّخبة السياسية فقط؛ واقع الحال يستدعي إدراج النُّخبة الصاعدة بقوّة، نُخبة رجال المال والأعمال، فهي لا تُزاحِم النُّخب المعروفة الآنفة الذِّكر، بل آخذة بالهيمنة عليها إلى حدِّ أنّها باتت تستخدمها في تحقيق طموحاتها، فالمال يشتري السياسيّين والمثقّفين، والوسائل متوافرة، ما دام رجال الأعمال يوفّرون العمل لهذه النُّخب تحت عناوين مستقبلية.

بيد أنّه هناك نُخبة لا تُضارعها أيّة نُخبة تعمل في الخَفاء مع أنّها مشهورة، نشاطها ضارب في بلدان العالم، إنّها النُّخبة الإجرامية، تمثّلها مافيات بسطت هيمنتها على العالم السرّي للجريمة المُنظّمة، تتمتّع بميزات تفُوق غيرها من النُّخب.

ووجودُها المتوطّن إلى حدّ التجذُّر في البيئات المحلّية، يُؤمِّن لها استمرارية لا تتوفَّر لأيديولوجيات وأنظمة وأحزاب ورؤساء دول، ليس لامتلاكها القُدرة على التنظيم فقط، ولا لأنَّها غدت دولةً خفيّةً ضمن الدولة المعلَنة، بل لتمكُّنها من التسلُّل إلى الدولة العميقة، فأصبحت واحداً من أركانها، مع الحرص على البقاء في الظلّ، والابتعاد عن القيام بكلِّ ما يضعها في دائرة الضوء.

لم تؤثّر جميع الجهود المبذولة لوضع حدٍّ لنشاط المافيا، إنّ وجودها حقيقةٌ صلبة، فالمافيا الصينية على سبيل المثال ما زالت تواصل نشاطها من دون انقطاع في داخل الصين وخارجها، منذ حوالي قرنين من الزمن رغم ما أصابها من مِحن وسجون وملاحقات وأحكام قضائية. ليست استمرارية النُّخب الإجرامية اعتباطية، فالتوريث يضمن تواجدها جيلاً بعد جيل، وبنيتها الحديدية راسخة على أساس الانتماء العائلي. أمّا الطاعة فعمياء.

المثقفون موظّفون والرفاهية شعار يُغطّي الإجرام

كما أنّ استمراريتها ليست سوى تحالفاتِها المتينة في الداخل مع مراكز قوى خفيّة، ما أمكنها من التسلُّل إلى الخارج، فصلاتُها الداخلية العميقة، وفَّرت لها الجدار الذي تستند إليه. فلم تتخلَّ عن جنسياتها، أو تفقدها، بل تمسَّكت بها، واكتسبت شهرتها بموجبها كالمافيات الإيطالية، والروسية والكولومبية والمكسيكية واليابانية والألبانية والتركية… إلخ. ومهما كانت امتداداتها حافظت على علاقتها مع “بلد المَنشأ” المولودة فيه، وفي حال نقلت أعمالَها إلى بلد آخر فيُوصف بـ”بلد المَلجأ”.

تزدهر النُّخب الإجرامية في بُلدان الملجأ، بعد تجارب أَملت عليها التعاون وتبادُل المعلومات مع غيرها من النُّخب الإجرامية، أكثرَ من النزاعات المجّانية معها، ولم تكن حروبُها مع بعضها إلّا تصفية حسابات، وساعدت التفاهمات مع غيرها على تقاسم الأسواق، مع قدرة كبيرة على التكيُّف مع معطيات ومتغيّرات تبرز بين فترة وأخرى. كما حدث مع المافيا الإيطالية عندما أرغمها القمع البوليسي الشديد على الاندحار، انكفأت ولم تندثر، ونقلت جزءاً كبيراً من أعمالها إلى أميركا، وتمكّنت من أن تأخذ بالاعتبار حساسيات بلد الملجأ، ما اضطّر عرّابيها إلى تبديل نهجها. فبينما كانت تَقتُل الشرطة في إيطاليا ولا تستثني القُضاة، حدّدت قواعد صارمة في البلد الجديد قضت بعدم اغتيال القُضاة ورجال الشرطة ورجال السياسة، وأصبح القتل ممنوعاً إلّا بأمر.

لا تجبُ الاستهانة بمرونة المافيا الفائقة على التأقلم، المُلاحظ بقوّة أنها لم تتأخّر عن المُسارعة نحو الانجذاب إلى السِّباق التنافسي نحو العولمة. وكان في انفتاح العالم على بعضه بعضاً، كقرية صغيرة، ما أعطى بُعداً عالمياً للجريمة المُنظَّمة، وتسهيلات فيما يتعلَّق بتجارة المُخدّرات وتبييض العملات وتجارة الرقيق والأعضاء البشرية، وكلّ ما يُعدّ تجارات مشبوهة. بحيث يُمكن القول، حسب محلِّلين، إنّ المافيات أصبحت تمثّل “الوجه الأسود للحداثة”.

تبلغ هذه الحداثة قدراً من السُّوء والسَّواد، مع انحسار الأيديولوجيات وصعود أيديولوجية وحيدة، أيديولوجية الثروة في ظلّ اقتصاد السوق الليبرالي، ما ساعد على توسُّع النشاطات المافيوية، وتأمين مجالٍ مثالي يستجيب لجشعها اللّا محدود، الذي شكّل مثالاً ناضجاً يغري أنظمة شمولية في العالم، تفتقد إلى الشرعية، لا يكلّفها ازدهارها إلّا التعاون مع المافيا، من دون السماح لها بالتغلغل في مؤسّساتها إلّا تحت أنظارها ورعايتها. وبقدر ما تبثُّه من فوضى، تُستوعب أساليبها الإجرامية، ريثما يتحوّل نظام الحكم إلى نظام مافيوي، والدكتاتور إلى عرّاب، في دولة لا تزيد فيها أجهزة المخابرات عن أداة قمع، بينما البرلمانات الشكلية والسياسيون والأحزاب ورجال المال والأعمال والمثقّفون… موظّفون لديها، وباعتناقها المافيوية، ترفع شعار الوفرة والرفاهية، فمن دون وفرة ولا رفاهية.

دُولٌ، هذا نصيبها من الحداثة السوداء، ليس رأسمالها سوى انحطاطها إلى عصابات تُتاجر بكلّ ما يدرُّ المال، ويعود بالخسارة والبؤس على الناس، تستعين بأُجَراء وعملاء، بينما المثقّفون يبرّرون ما لا يُمكن تبريره. ليس السؤال إلى أين تنحدر هذه الدول، ما دام الشيطان على رأسها يقودُها إلى الجحيم.