امتنعت الموسيقى الكلاسيكية عن الكلام منذ نشأتها في القرن السابع عشر، فلم تصطدم مع السلطات الزمنية. وما زالت في استقرار بينما تتطوّر على مهل وبتُؤدة. بينما الموسيقى والأغاني، مهما تعدّدت أنواعها الغربية والشرقية، قديماً وحديثاً، مع ما طرأ عليها من تطوّرات وتجديد، وغالباً تقليعات على شكل انقلابات، فقد استقرّ منها القليل، بينما ذهب أغلبها إلى تاريخ الموسيقى الحافل بالجمال والبهجة.

في القرن الماضي، أضافَت بعضُ التقليعات الغنائية الضجيج المثير إلى عالم الموسيقى، واستمرّت على قيد السمع فترات طويلة، وما زالت. تميّزت عنها موسيقى الجاز، حتّى أنّها اعتُبرت الموسيقى الكلاسيكية الأميركية، ووُسم عصرٌ بها، أُطلق عليه “عصر الجاز”، كذلك الموسيقى الريفية لمحلّيتها الفولكلورية، بينما موسيقى البوب والروك آند رول، والتويست والديسكو، والهارد ميتال وغيرها كانت من التقليعات الصاخبة، فنشطت وطغت في زمانها. أصابتها الشهرة العريضة، ولم يُصبها المنع، وإن أَظهرت انفلاتاً فنّياً، انعكس إلى انفلات اجتماعي، أُثيرت حولها بعض الشكوك، واتُّهمت بإثارة الغرائز، لكن كان هذا في زمن شَطط الغرائز، والموضات العابرة وما تثيره من انفعالات متطرّفة، في النهاية اعتُبرت تفريغاً لها.

الأوبرا هي ما أخرج الموسيقى الكلاسيكية عن تحفّظها

حافظت الموسيقى الكلاسيكية على نقائها، تخاطب الأرواح والعقول بلغة تعجز عنها لغة البشر، لم تكن بحاجة إليها، كانت لها لغتها الخاصّة؛ لغة النغم والإيقاع. ويبدو أنّ تجلّي قدراتها أسهمَ به تحرُّرها من الكلام، لو أنها ترافقَت به، لَما كان لها أن تحلّق في فضاءات بلا حدود.

استطاعتِ الأوبرا إخراج الموسيقى الكلاسيكية عن تحفُّظها باختراقها بمجموعة كبيرة من الفنون؛ الباليه والتمثيل والفن التشكيلي والاستعراض المسرحي والكورال والكومبارس، وبالكلام أيضاً، وإن كان شعراً، بحجّة أنّ الموضوع غير مهمّ، ولا الكلام مفهوماً، إذ إنّه أصوات يمكن اعتبارُها موسيقى حسب طبقات الصوت، باريتون وتينور وسوبرانو، وتنويعاتها.

لا تخفى جاذبية الموسيقى، ولا قوّة تأثيرها في النفوس، فابتدعتِ المارشات العسكرية لبثِّ الحماسة على إيقاع ضربات الطبول والصنوج. ولم يفتر التدخّل، فكانت الأغاني الحماسية، ما شكَّل اعتداءً على نقائها، ولو كان بمناسبات وطنية، لم تُشكّل اتّهاماً، فالناس قليلاً ما يَحظَون بهذه المناسبات، ولا تنتابُهم المشاعر الوطنية والقومية عادةً إلّا في الأوقات العصيبة، وجرى التسامح مع النشيد الوطني على أنّه رمز للأمّة. لكن سرعان ما حلّت الطامّة الكبرى، غدت الأغاني تتزلّف إلى ذوي الشأن من الزعماء والرؤساء، وتقرع الرؤوس صباحَ مساء. وكانت تختفي بذهاب الزعيم، ثم تعود مع زعيم آخر. أمّا في البلاد التي شعرت بنعمة الديمقراطية، فلم تعد تُستخدم، وبقيت من حصّة البلدان المتخلّفة، ولا تروق إلّا لهذا الذي تُصنَع لأجله، ولا يطرب لها سوى المُوالين.

مهما حلّقت الموسيقى، لا تقوى على النأي عن هذا العالم

كان من المتّفق عليه أكاديمياً أنّ الموسيقي الكلاسيكية أصبحت جزءاً مستقرّاً في الموسيقى العالمية، تتمتّع بالاستمرارية على هذا النحو، نصيبُها محفوظ في الحفلات الموسيقية في أنحاء العالم كلّه. كان طموح الموسيقى الدائم التحرُّر تماماً من اللغة، ومن المظاهر الأُخرى كالقومية والأيديولوجيات والعسكر والحرّية والنضال، كانت الرغبة أن تكون عالمية، لغتُها اللحن فقط. لغة وتواصُل تحسّ بها الشعوب والأمم على اختلاف لغاتها، ولا تجير إلّا لتلك المشاعر الإنسانية الرقيقة، الرفيعة والراقية.

كانت الرغبة في الابتعاد عن الكلام، للنجاة من التفسير أيضاً، بعد تجربة مؤلمة – هذا إذا شئنا المبالغة، ولن تكون إلّا كمثال – مع تولستوي الروائي، أصابت بسهامها الموسيقار بيتهوفن، دليل الاتهام لحنٌ عُرف تحت عنوان “سوناتا كرويتزر”، في روايته المترجمة إلى العربية بعنوان “لحن كرويتزر”. يصوّر فيه تولستوي كيف تتلاعب الموسيقى بعواطف امرأة متزوّجة تعيش بلا حبٍّ… يضبط فيه الزوج امرأته تعزف السوناتا مع موسيقيّ، فيعتقد أنها قد تخونه تحت تأثيرها، فيحرّضه الشكُّ على قتلها.

تعبّر المرأة عن حالتها بأنّ الموسيقى تجعلها تنسى نفسها، وتحملها بعيداً إلى حالة أُخرى من حالات الوجود، ويساورها الإحساس بأنّها قادرة على فعل أشياء ليس من المسموح الشعور بها. لم تمرّ الرواية بسلام، سلطة الرقابة القيصرية منعتها، وكانت في الوقت نفسه، محاكمة لبيتهوفن، الاتّهام بإثارة الغرائز، ما قد يدفع المرأة إلى خيانة زوجها، وتدفع الزوج إلى قتل زوجته.

رغم عدم الكلام، لم تنجُ الموسيقى من الطبائع البشرية، كانت لها بالمرصاد، ماذا تكون سوى الغِيرة والحسد والإخلاص والحبّ والكراهية والحماقة والجنون؟ ترغب الموسيقى في التحليق عالياً، لكن مهما حلّقت لن تستطيع النأي عن هذا العالم، ما دام هناك عواطف وطموحات وتمنّيات ورغبات وآمال، تنتزعها من أبراجها العاجية. لكن بالرغم من أنّها صناعة بشرية، تغرّد ولو وحدها، وتسبح في فضاءاتها الروحية.