لم يعد من جدوى في التساؤل إن كان الخلطُ بين الإرهاب والإسلام مقصوداً، أو كان من تداعيات تساقط الأيديولوجيات. عموماً كانت فرصة للحركات الإسلامية لاعتماد أيديولوجية الجهاد، بعد انتصاراتها في أفغانستان، وسوف توفّر منظّمة “القاعدة” للجهاد إدانةً عالميةً وعربيةً مبكّرةً، ويوصف بالإرهاب، بعد انحرافه الحاد في مغامرته بما دُعي “غزوة نيويورك”، تزايدت بعد ظهور “داعش” التي توحّشت منذ الإعلان عنها، وألصقت حروبَها بالإسلام، برفعِها شعارات إسلامية، تفاقمَت إلى حد اعتبر الإسلام الحاضنة لها، والمُرشد إلى قطع الرؤوس والأيدي والأرجُل، والرمي من شاهق، ما عنى أنّها صناعة إسلامية بحتة، واعتبار القتل منجزاً إسلامياً، وكأنما التاريخ والإنسانية لم تعرفا هذه العقوبات. كان من جرّاء الاهتمام به احتجازُه داخل إطار الجماعات الدينية المتشدّدة، واقتصار دراسته على تأثيره الهدَّام في المجتمع، وتهديده المجتمع الدولي. أما الحل، فقطعُ دابر الإسلام.

لئلّا نبالغ. لم تكنِ المشكلة هي الإسلام وحده، بل الدينُ بالتحديد أيضاً، فالجهود لم تنقطع في العمل على محاصَرته وإبعاده عن المجال العام، والحَجر عليه في محاجرِ التاريخ السقيم، كشيء يمتُّ للماضي فقط، لا مكانَ له في الحاضر، ولا دور له في المستقبل. تبدّى في القرن الفائت، بقطع صلته بالفلسفة، وكان في انسحابه التدريجي منها، سابقةً ملموسةً، بعدما كان الجزء الأكبر من اهتماماتها، بتحديد نصيبه منها في الغرب بهوية الفيلسوف كاثوليكي أو أرثوذكسي، أو بروتستانتي أو بلا دين، بالمختصر مُؤمن أو مُلحد.

ما أدخل تقسيماً في الفلسفة ذاتها، ففي الفلسفة الوجودية أصبحت هناك وجودية مؤمنة ووجودية مُلحدة، هذا التمييز يشير إلى أن الفلسفة باتت مشبوهةً بعلاقتها مع الأديان بأنها مضادّة للعقل، مع أنه إذا كان لهؤلاء الفلاسفة عقولٌ، فهذه العقول لم تلغِ السؤال الميتافيزيقي المتجلّي في الدين، ولن يكون تجاهله هو المحكّ والفيصل حول أهليّتها في التفكير الفلسفي. في العقدين الأخيرين، اكتسب المُسلم صفة مُحرّضٍ، وداعيةٍ، وجهاديٍّ، وأصوليٍّ، ومتأسلمٍ، وإرهابي… إلخ، وشملتِ الدين المسالم، وأصبحَ الاعتدالُ قابلاً للتشدّد، من دون التركيز على الدين الذي سرقه الإرهاب بحدّ السيف والساطور، وحروبٍ تنشد استعادة الخلافة، هذا من دون البحث في الأسباب.

تنفذ المعتقدات إلى المجال العمومي كما التصورات الأخلاقية

أمّا التصوّف، فارتفعت أسهمُه، كطقوسٍ وحضور وتهويمات وتجلّيات وحكم وحبٍّ روحاني. وذلك لنبذِه شؤون المجتمع من فقرٍ وعدلٍ، كأمورٍ مثيرةٍ للخلافات والفتن، تركت للسلطان العادل ولو كان مجرماً، ما يليق بالحكومات الباطشة، الساعية لخنق شعوبها، وهناك من ارتضاها عن طيب خاطر.

وكان من مزايا هذا الخطّ الروحاني، ظهورُ رواياتٍ تعيدُ كتابةَ ما كتبه المتصوّفة، من دون التأثّر بالعصر الذي نعيشه، بموجب أنّ المتصوّفة لم يتركوا زيادة لمستزيد، حتى أن روحانياتهم استُهلكت عشرات المرّات، ولو أنها وُضعت في قالب عصري حداثي، يُذكّر بالجوع إلى الروحانيات، وإلى عالم آخر لا يمتّ لعالمنا بِصلة. لا يعني أن من كتب هذه الروايات متصوّفٌ، أو متعاطفٌ معه، وإنما بات سوق الكتاب يجدُّ في طلبها، كانتقاد للزمان الغربي.

هذه المخاوف من الدين، تعني أنه ما زال مستهدفاً، ويُبشَّر بانتهائه بصيغته حتى الحالية المُعتدلة كما نعرفه، والذهاب إلى دين جديد، نحو علمانية بلا ضفاف، وهي خليط من دين يخلو من الدين، وحرّية فكر بلا حرّية، ما يؤدّي إلى علمانية تخلو من العلمانية، فلا يُعرف هذا من ذاك. وكان من محاسن تفسير حكاية فصل الدين عن الدولة، إلغاء الدين، والاستعاضة عنه بما تمليه الدولة من دين على الشعب.

المخيّب لآمال العلمانويين الجُدد، ما طلع به الفيلسوف الألماني الكبير يورغن هابرماس، وهو واحد من أهم دعاة التنوير، بعدما أصبح التنوير بحاجة إلى إضاءة وبعدما نالته تجديداتٌ ذهبت به إلى إظلامٍ جزئيٍّ مُقبلٍ على إظلامٍ كليٍّ، يقول إن الصراع بين الدين والعلمانية قد تتلوه مرحلة جديدة، عبّر عنها بدخول أوروبا عصر “ما بعد العلمانية”، بمعنى ضرورة الاعتراف للدين بنواته العقلية، وبحقّه في ولوج المجال العمومي مع احترام شروطه التداولية البرهانية الحرّة. هذا مع التأكيد على عدم اعتماد الدولة مرجعيةً دينيةً رسميةً، والإقرار بحقّ التديُّن الفردي اعتقاداً وتطبيقاً، من باب أن المعتقدات الدينية عناصر مهمّة في الحياة، يمكنها كغيرها من التصورات الأخلاقية الإنسانية أن تنفذ إلى المجال العمومي. إذ ليس الدين مجالاً ممنوعاً على العقل، ولا هو نقيض له.

ما زال للدين متّسع في عالمنا، فحاجة البشر إليه ما زالت قائمة، طالما هناك حياة وموت، حتى الذين لا يحتاجونه، يشكّل بالنسبة إليهم احتياطاً في عالم تجتاحه النكبات، إنّه شاطئ أمان، لهؤلاء الذين يبحرون سواء في الظلام أو النور.