في حدثٍ اعتُبر غريباً، وغير مسبوق حول أخلاقية الفن الحديث، شنّت النسويات في نيويورك عام 2017 حملةً اتّخذت شكل عَريضة على وسائل الإعلام، تطالب “متحف متروبوليتان للفنون” بإزالة لوحة “تيريزا تحلم” (1938)، للفنان البولندي الفرنسي بالثوس، أو إرفاقها بملاحظة تتّهمُ كلّاً من الفنان واللوحة بالبيدوفيلية والترويج لها. بلغ عدد الموقّعين على العريضة 10500 شخص.

تُصوّر لوحة بالثوس “الفاضحة”، فتاة صغيرة السنّ في وضعٍ غير لائق. كانت اللوحة للموديل تيريز بلانشارد البالغة من العمر 11 عاماً جالسة بلامبالاة، تائهةً في تفكير عميق عيناها مغلقتان وذقنُها مائل، وكأنها تحاول إخفاء شيء ما، بينما انكشفت ملابسها عن ساقيها. عندما سئل بالثوس عن تصوير المواقف الاستفزازية للفتيات في سنّ المراهقة في أعماله، قال: “هكذا الفتيات الصغيرات يجلسن”.

أثارت اللوحة الكثير من الجدل – حسب النسويات – حيث يبدو الهاجس الجنسي في أن الفتاة (ما عدا أنها صغيرة) اتّخذت وضعاً استفزازياً مثيراً، أثار انزعاجاً دفعهُنّ إلى الحثّ على اتخاذ إجراءات بإزالة اللوحة من المتحف، أو وضع ملاحظة تفيد بالتحيّز ضدها.

كانت إجابة “متحف متروبوليتان للفنون” واضحةً جداً: “لن يزيل المتحف اللوحة، ولن يتبنّى وضع تنبيه على الجدار يشير إلى أنه ضدها”. فاتّهمته الحملة بالدفاع عن الفنان بالثوس عبر تقديم أفكارٍ صعبة حول الفن، لا يُمكن التسامح معها ولا هضمها، لن تؤدّي إلّا إلى تسويق البيدوفيلية على أنّها جزء من هدف الفنّ غير المسؤول.

ربّما للحرّية أخطاؤها، لكنّها قيمة لا يجوز التنازل عنها

رفض المتحف الإذعان لهذا الطلب القمعي؛ بذريعة أنّ مهمّته تتمثّل في جمع الأعمال الفنّية المُهمّة ودراستها وحفظها وتقديمها عبر جميع الأوقات إلى جميع الثقافات من أجل ربط الناس بالإبداع والمعرفة والأفكار. هذه اللحظات الإنسانية الثمينة، توفّر فرصة للبشر للتواصُل مع الفنون والعصور والبشر والعالم، بالنظر إلى أنّ الفنَّ المرئي هو أحد أهمّ الوسائل التي لدينا للتأمّل في الماضي والحاضر، وتشجيع التطوّر المستمرّ للثقافة القائمة من خلال المناقشة المُستنيرة واحترام التعبير الإبداعي.

لاحقاً، ستطالب النسويات القائمات على الحَمْلة بالاقتصار على نشر تحذير صريح مكتوب، يوضع على الحائط إلى جوار اللوحة التي كانت ربّما عن غير قصد، تدعم التلصُّص على الأطفال، ما يُخلي مسؤولية المتحف عمَّا قد تثيره من استهجان. فأصرَّ المتحف على الرفض، لأن وضع تحذيرٍ يعني وضع معلومة تحرف اللوحة عن سياقها، وتقيّد المشاهد بالنظر إليها من خلال رأي مسبقٍ، وتفسير مجتزأ، ما يحرم اللوحة من تفسيرات متنوّعة ومغايرة، لا يتيح للمشاهد فرصاً تنحو إلى التحريض على امتلاك أفكار مختلفة حول العمل الفني.

حاول نقّاد الفن ومؤرّخوه التدخّل بالتفريق بين احتدام الجدل حول اللوحة ومحاولة منعها، واتَّهموا ما طالبت به النسويّات بأنه فاشية، ولا يمكن الانصياع لها تحت أيّة حجّة، فعلى مدى التاريخ كانت لدى جهاتٍ كثيرة ذرائعُ شتّى لمنع الفنّ، كانت مبرّرة في وقتها، فهُدمت آثار فنّية ذات قيمة تاريخية على أنها وثنية، وفي أوروبّا الإصلاحية، دُمّرت أعمالٌ فنّية لأنها كاثوليكية. وحديثاً في ألمانيا النازية، صنّف النازيون الفنّ الحداثي في فترة العشرينيات والثلاثينيات على أنه فنٌّ منحطٌّ. فماذا عن الليبرالية المعاصرة، هل تجب عليها بدورها محاكاة تلك السوابق القمعية الرقابية؟

الفن ليس ديناً ولا أخلاقاً ولا فلسفة ولا سياسة، قد يشتبهُ بها أحياناً، بل هو أداة تعبير، قد يقول شيئاً أو أشياء، وربّما هو إحساس، وقد يكون مجرّد حرّية… ولوحة “تيريزا تحلم” مجرّد صورة للحرّية، حرّية الفنان في التعبير، أمّا إلى أي حدٍّ كان مخطئاً ومجانباً للصواب، فهذا تقدير أشخاص، أو جهة ما، لكن لندع غيرهم يفكّرون ويتأمّلون ويتساءلون… ربّما كان للحرّية أخطاؤها، لكنها قيمة لا يجوز التنازل عنها.