ما الذي يجمع بين أدب السيرة والرواية؟ لن نتوسّع في البحث، سنشير إلى أحدها، وهي أنّ العلاقة بينهما تدور حول “شخص ما”، وإن اختلف نصيبُه في كلٍّ منهما، فالسيرة روايةٌ ترتكز على شخصية واحدة تنحو إلى جلاء جوانب من حياتها، بينما تنشُد الرواية تخليق شخص ما في عالم ينحو إلى أن يكون واقعياً، يتخيّله الكاتب من وقائع وأمكنة وبشر.
كما يُلاحَظ أيضاً، من ناحية الفرق بينهما، أنّ الشخصيات في الرواية، حتى لو كُرّست لشخصية رئيسية، فلن تكون واضحة تماماً، إذ يدرك الروائي أن ليس بوسعه القبض عليها فعلاً، ليس لأنه لا يحقّ له، بل لعدم قدرته على الزعم بأنه يعرف دقائق عالمها الجوّاني، وما تجلّياتها في الرواية إلّا في مقاربتها، فيترك بعض ملامحها للغموض، إن لم يضف إليها غموضاً تحبّذه الرواية، يعوّض عن استحالة معرفتها بشكل كامل، مهما حاول، إذ يحس بعجزه، فلِمَ الادعاء؟
في أدب السيرة، الأمر معكوس، يسعى الكاتب إلى استعادة شخصية حقيقية من الماضي ليكشف عن غموضها من خلال كتابة ما يكتنف سيرتها من خفايا وأسرار وعواطف ومواقف ونوازع وصعود وسقوط… يتوخّى القبض عليها من خلال تقصّي رحلة الحياة، بالاطّلاع على المراجع والوثائق والشهادات والذكريات والمراسلات والمذكّرات. وبالرغم من توافرها، لا تخلو من المجازفة، وربما الأخطاء في ما يسبغه عليها، أو يغفل عنه، لكن لا شيء يمنعه، فالشغف للتعرّف إليها جدير بالمحاولة، لذلك غالباً لا يُكتفى بالنسبة للشخصيات الإشكالية بسيرة واحدة، ففي سيرة شكسبير بلغت الكتابة عنه وعن أدبه ما يبلغ مكتبة كاملة بجميع اللغات، وتتزايد باستمرار.
لا يقتصر أدب السيرة على الأدباء، بل يتعدّاه إلى شخصيات تاريخية كنابليون بونابرت، وفلاسفة كأفلاطون وسقراط ونيتشه، وسياسيّين كتشرشل، وطغاة كستالين وهتلر، وزعماء كعبد الناصر وجواهر لال نهرو، وثوريّين كلينين وجيفارا، ولا ننسى الروائيّين كتولستوي ودستيوفسكي وبروست… هؤلاء في عصورهم كانوا من الصفّ الأول، وقد يُعاد النظر إليهم مراراً من عصر لعصر، ويحتلّ غيرهم محلّهم. فكلُّ عصر ينظر بمنظاره، مع اكتشاف مراجع عنهم لم تكن متوافرة من قبل.
الإنسان مجموعة حقائق، قد تكون منسجمة والأغلب متناقضة
يتعرّف القارئ في كتب السيرة إلى التاريخ، فسيرة بلزاك مثلاً تشكّل مصدراً للفترة النابليونية وعودة المَلكية، كذلك شكسبير يُشكّل مصدراً لبريطانيا الإليزابيثية… ليس التاريخ كسرد وأحداث فقط، بل في الكشف عن طبيعة تصرُّفات شخصية ذات تأثير في عصرها من جوانب متعدّدة، اجتماعية وسياسية وعاطفية. صحيح أنّ التاريخ في تغيّر مستمرٍّ، لكن الطبيعة الإنسانية تلك التي نظنّها لا تتغيّر سواء في قوّتها أو ضعفها، قد تتماثل أفكارها في القضاء والقدر، الحكمة والتهوّر، العواطف والشرور… وفي تلك النقائص: البخل والحذر، الإدمان والخوف، الوحدة والعزلة والندم… بيد أنّ ما يطرأ على الأخلاق من تصوُّرات ينعكس عليها أيضاً.
قد نعتقد أنّ العجز عن التعرّف الحقيقي إلى البشر يكمن في تلك الأعماق السحيقة العصية على المعرفة، ما يجعلنا نصدف عن السيرة لما قد يسبغ عليها من أوهام وأكاذيب، فرجال الدولة والكتّاب الكبار، يُضفون الأهمية والمثالية على أفعالهم، وما سيرتهم إلّا صناعتهم. لذلك تبدو السيرة لا تقلّ عن تزوير التاريخ، خاصّةً في تعدُّد تقييمها، هل تُعزى إلى تعدُّد الحقيقة الإنسانية؟ ما يحيلنا الى أنفسنا نحن، والتفكير فينا، فالإنسان أكثر من حقيقة واحدة، إنّه مجموعة حقائق، قد تكون منسجمة، والأغلب متناقضة، ما يفكّك شيفرة الصراعات البشرية من خلالها.
حظيت كتب السيرة وبشكل مبكّر، بعد ظهور المطبعة، بانتشار واسع النطاق، وشهدت إقبالاً في الغرب، بلغ في العقود الأخيرة أنّ بريطانيا وحدها تطبع أكثر من ألفَي عنوان سنوياً، ما يدلّ على شعبيتها الهائلة. وإن كان نصيبها في العربية ضئيلاً، أشهرها “الأيام” لطه حسين و”حياتي” لأحمد أمين، كذلك كتابات جلال أمين في السيرة “ماذا علمتني الحياة؟” و”رحيق العمر”، والسيرة غير الذاتية لعبد الوهاب المسيري “رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار” وتوفيق الحكيم في “زهرة العمر”.
ومنذ ما لا يقلّ عن عقدين، بدأت السيرة تشهد انتشاراً واسعاً، لم تعد مقتصرة على الأدباء، باتت مفتوحة للقادة العسكريّين وللعلماء والفنّانين، وإذا كان نجيب محفوظ لم يترك سيرة ذاتية فهو موجود في كمال عبد الجواد، أحد أبطال ثلاثيته القاهرية، ما حرّض كثيرين على تقصّي دقائق حياته، وباتت الشغل الشاغل للصحافة الأدبية.
-
المصدر :
- العربي الجديد