لا يُخطئ المراقب مشهداً بات يتكرّر في وسائل التواصل الاجتماعي، فحرّية الرأي والتعبير، شبه المتوافرة والمكفولة إلى حدّ ما، وأحياناً الطليقة من القيود، بالمقارنة مع ما تسمح به الحكومات من حرّيات مرفقة بالرقابة والسجون، شجّعت على انطلاق انتقادات ساخرة من كلّ شيء، تتحوّل أحيانا إلى حملات، على رأسها الطغيان والقمع، لم تخلُ من هجاء الأديان، خاصة الإسلام، مستغلة شُبهة التصاقه بالإرهاب، والادّعاء بمسؤوليته عن هزيمة الثورات العربية، وسُقوط الربيع في حبائل الإسلاميين، أحالت إليه إخفاق ما كاد أن يتحقّق من ديمقراطية ودولة مدنية. وإذا كان فيها قدر من الحقيقة، لكنها في الوقت نفسه لم تخلُ من قِصر نظر وتحامُل إلى حدّ إعفاء الأنظمة من مسؤوليتها.
الجانب الآخر لهذه الحملات كان في الفرصة السانحة للانقضاض على الإسلام، وتفنيد ما جاء به من شرائع وتعاليم أخلاقية وطقوس تعبُّدية، وإنكار الإله في المعتقد الإسلامي، الذي هو الإله نفسه للأديان والبشر جميعاً، وتحميله وزر القتل والجهل، والطعن به إلى حد تكفير المسلمين وتأثيم الإسلام والمُغالاة في الاتّهام، مع التغنّي بالإلحاد. يقوم على هذه الحملات شبّان يدّعون العلمانية ولا يقبلون عنها بديلاً، مع ظهور طاقم من المثقّفين المتهافتين على المنافع من بقايا يسار مريض، يُغازل الغرب بهذه الدعوات.
ما استدعى حملات بالمقابل ذات طابع إسلامي، تجهد في تكفير العلمانية والعلمانيين، وإلحاقهم بالأنظمة العربية الديكتاتورية التي تدّعي العلمانية. ترفع راية الدين، وتجهد للسيطرة عليه واحتوائه، باختلاق دين مُسالم، ليس من السلام، بل ليسالم الديكتاتوريات بأنواعها الدموية والجشعة. يمكن ضمُّ الطرفين كليهما إلى فصيل واحد يجمع بينهما، الجهل عمداً أو عن غير عمد، بما يتصارعان حوله، من ناحية ادّعاء كلٍّ منهما سواء الإسلام أو العلمانية، بينما لا العلماني علماني، ولا الإسلامي إسلامي.
التذرّع بإسلام مصنوع على القياس يقابَل بعلمانية موتورة
يجتاز المتعلمنون، في أحسن الافتراضات، مرحلة مراهقة محمومة، وفي أسوأ الأحوال، يخوضون جهاداً علمانياً مشبوهاً، ويتبَاهون بأن الإسلام كان دينهم، وأعلنوا الارتداد عنه إلى غير ما رجعة، وهو في الواقع شأنهم الخاص، لكنهم يحرضون ضدّه. ليس من المبالغة القول إن هذا الجهاد كثيرا ما ينقلب إلى إرهاب علماني، لمجرد أن من ينادي به يدعي العقلانية، وينصح الناس بالنور الإلحادي اللافظ الأديان جميعها، واعتبارها إحدى خرافات البشرية. ويخص الإسلام بالذات لأنه حسب زعمه أكثرها شراً بدعوته للجهاد، ما أدى إلى استنقاعنا في التاريخ بالخلط بين الحقائق والأكاذيب.
إذا كان العلماني يسعي إلى تنوير المسلم بالكفر، والمتأسلم يسعى إلى تكفير العلماني بحجة الشريعة، فمن الطبيعي ضلال مساعيهما. ما دام أنهما أخطآ الطريق إلى الإسلام والعلمانية معاً. ولا تزيُّد في القول… مثل ما يتذرّع الإرهابيون بإسلام مصنوع على قياسهم، يتذرّع أشباهُهم بعلمانية موتورة على قياسهم.
هل هناك حاجة للعرب المسلمين إلى علمانية تعمل على بذر الشقاق، وتؤدّي إلى الفتنة؟ الذي لا يدركه علمانيو المراهقة، استحالة تخلّي المسلمين عن دينهم كُرمى لعلمانية حاقدة. وإذا كان بوسعنا الحديث عن جهاد علماني، فهو جهاد في غير محلّه، يُنفّر منها، يشوّهها ولا يحسّن التعبير عنها، بقدر ما يُسيء إليها. ويعمل على الضد من العلمانية نفسها التي تبيح له الإلحاد وللآخر الإيمان، وتهيب بالمؤمن إلى الدفاع عن حرية المُلحد في الكفر، مثل ما تهيب بالمُلحد إلى إفساح الحرية والأمان لممارسة المؤمن شعائر مقدّساته. فالعلماني لا يلخّصه المُلحد، ولو كان علمانياً، ولا المؤمن يلخصه الإرهابي، ولو كان مسلماً.
وربما سيطول انتظارنا لبلوغهما سنّ الرشد، واللهاث وراء ادّعاء الحداثة والتميُّز عن القطيع، والسعي لإلغاء الآخر بكافة الوسائل. فقد حان الوقت، مع أنه حان مراراً من قبل، لتوخّي هذه الأطراف عدم التشدُّد في عقائدهم المؤقّتة والعابرة، المنتحلة من التطرّف، لا من التعقّل. هذه العقائد المبتدعة من سياسات العصر، في حال استفحلت وترسّخت على الخطأ، سقطت في مسلسل القتل المُتبادل.
-
المصدر :
- العربي الجديد