تتفرد الأنظمة الشمولية بأسلوب خاص في معالجة مسألة تشابك الثقافة بالسياسة، ومنع التداخل بينهما، فتزعم أن لكل منهما مجاله الخاص، وهي وحدها صاحبة الشأن في رسم الحدود بينهما على أسس واضحة. فأجهزة الدولة تعبر عن سياسات البلد في الداخل والخارج، في حين ينصرف المثقفون إلى شؤونهم الثقافية، وبشكل أوضح ، ليس ثمة علاقة بين الأدباء والفنانين بشؤون إدارة الدولة وتسيير مصالح الناس، طالما لا شيء يجمع بين الأدب والسياسة. إن ميادين نشاطات الأدباء والفنانين في الندوات الثقافية والمسارح وصالات السينما، والكتابة في الصفحات الثقافية للجرائد والمجلات، بهدف إسعاد الناس وترقية أذواقهم والترفيه عنهم، فلا حاجة إليهم ولا مكان لهم في خضم السياسة.

لا تقصر الدولة بالمقابل تجاههم، تقدم الرعاية لهم، بتوفير المهرجانات الضخمة الحافلة بإلقاء الخطابات والأشعار، ورصد الجوائز والمكافآت والأوسمة، وتوفير صالات وقنوات فضائية لبث أعمالهم، ما يؤكد أن الثقافة بخير تحت رعاية أنظمة لا تقل سخاء عن الدول المتقدمة، وكل هذا من قبيل الدعم والتشجيع، أحياناً تحتم الضرورة الاستعانة بهم. عندئذ، يجري تصحيح الهدف من الأدب، ليصب في مصلحة سياسات الدولة.

هذا المفهوم كان الأصل الذي استدعى ظهور تعبير “الأدب الهادف”. ففي زمن الثورات والحروب والانقلابات يعمل على تعبئة الجماهير، وفي حال الاعتداءات الخارجية يدحر مزاعم العدو، وينشط حيال المؤامرات لكشفها والتحذير منها. أما كيف؟ فبوسائله الخاصة، تمثيليات، أغاني، أهازيج، أشعار، مسرحيات، قصص قصيرة، ولا بأس برواية، إضافة إلى كتابات متنوعة تعمل في ركاب السلطة ولا تشذ عنها. ففي الأزمات يتجند الأدباء والفنانون للدفاع عن الوطن أسوة بالشعب كله. كذلك في أيام السلم، كما حصل في الزمن الاشتراكي، تمحورت جهودهم في توعية الشعب بمآثر التحول الاشتراكي والدعوة لزيادة الإنتاج، والتحريض على صراع الطبقات.

نشطت الثقافة بشكل عام، والأدب والفن بشكل خاص، خلال العقود السالفة طبقاً لتعليمات السلطة وتوجيهاتها، وخاضا معا الصراع ضد البرجوازية والإمبريالية، مع عودة الاستقرار ارتدت الثقافة لشؤونها الخاصة، في الكتابة عن المشاكل الإنسانية؛ الذاتية والعائلية والعاطفية والجنسية وما يخالطها من مغامرات وتخيلات وأحلام… بشرط ألا تشتط وتتطرق إلى إشكالات يُشتبه بها، دوافع سياسية، ولو كانت تخص السعادة، بالتالي يجب على الكاتب إدراك أن السعادة والشقاء كليـهما من الأمور العائدة للدولة. من هذه الناحية، لا يحق للثقافة استعارة السياسة لطموحات أدبية، طالما الحدود واضحة، فالدولة تنحو إلى التصدي لمشكلات حقيقية، غير متوهمة، تتطلب اتخاذ إجراءات لإيجاد حلول واقعية، يعتمد تنفيذها على السلطة، وبالضبط الأجهزة الأمنية. وهذا يشمل الأدب والفن، ولا يستثنيهما.

نشطت الثقافة بشكل عام، والأدب والفن بشكل خاص، خلال العقود السالفة طبقاً لتعليمات السلطة وتوجيهاتها، وخاضا معا الصراع ضد البرجوازية والامبريالية

تبدو نظرة النظام إلى الثقافة بريئة، وكأن القسمة بينهما، أو تحديد الأنصبة مفروغ منها، وإذا تابعنا هذا المنطق، فسوف يُدعم بالحجج البريئة نفسها، من ناحية أن السياسيين لا يتخطون صلاحياتهم، فلا يتنطحون لكتابة الرواية والشعر، ولو توفرت لديهم الموهبة، وإذا كتبوا فلا أكثر من مذكراتهم، بعد التقاعد أو تسريحهم من وظائفهم، ولا يجوز لهم السطو على العملية الإبداعية. فالأدب حرفة، بالمقابل تصبح السياسة عملاً احترافيا يخص السياسيين كمهنة وتخصص، وعبارة عن ناد مغلق على الأعضاء، لا يحق للشعراء والروائيين الحلول محلهم، ولا مزاحمتهم على أدوارهم، أو مقاربة موضوعات تخصهم، وإذا تناولوها فبحذر ومسؤولية، أي الالتزام بتوجهات السلطة، ولا يعقها عن ممارسة عملها، بل يخدمها.

في الواقع، حسب المثقف، السياسة شأن الجميع، أي شأن المواطنين جميعاً بمختلف توجهاتهم ومشاربهم وطبقاتهم. وإذا كان المثقفون يعتبرون أن علاقة الثقافة بالسياسة لا تنفصم، فلأنهم يهتمون بالحريات والعدالة والمصير والمستقبل والحياة… هذه هي السياسة، لذلك لم يكن عبثاً القول، إنه من فرط أهمية السياسة، لا يجوز تركها للسياسيين وحدهم، إنها شأن عام ولا شك في أن أسوأ مظاهرها تحكم الدكتاتوريات بالسياسة، وجعلها حكراً على حزب، أو قلة من الأشخاص، وفي الواقع شخص مفرد، هو الدكتاتور.

إن شكوى الحكومات من المثقفين ومحاولاتها ضبطهم عند حدود لا يتخطونها، ليس إلا كفاً لـلمجتمع عن السياسة. وما سيصيب المثقفين كحد أدنى لدى الصدام مع السلطة هو المنع، وبما أن الأنشطة الثقافية تابعة لجهات رسمية، يستطيع موظف صغير أن يسمح ولا يسمح حتى من دون تعليمات، طالما التعليمات الدائمة هي المنع، لكل ما يجلب الشبهة من عدالة وحرية. وقد يقادون إلى السجون كما يحدث في روسيا والصين، ولا يستبعد الاغتيال من قائمة القمع، بينما في كوريا وسوريا، يختفون في الثقب الأسود.

لا تختفي إشكالية هذه المعضلة، حتى في انصراف الأدباء والفنانين إلى موضوعاتهم الذاتية الأثيرة، فالسياسة لا تتسلل فقط إلى عوالمهم الابداعية، بل تقتحمها مثلما تقتحم مجالات عيشهم، فلا يخلو أي مظهر من مظاهر الحياة من السياسة، كذلك في الكتابة، لا تغيب عن الحب والدين، الفقر والجوع، العمل والجنس، الطعام والشراب، الشروق والغروب … كل هذا تنسج السياسة معه وحدة لا تنفصل. إذا كانت الحريات مفتقدة، يستحيل تجنب تأثيراتها في رؤاهم وكتاباتهم، ما دام أن السياسة لم تكن الا لتوفير الحرية للبشر، وما السلطات بأنواعها إلا لتعمل على تأمينها. بالتالي من الطبيعي أن يضع الأدب والفن الإنسان بكافة أبعاده في بؤرة اهتماماته.

في النظام الشمولي، لا مبرر للاسترسال في الكلام عن صلاحيات السلطة، فهي بلا حدود. ولا مبرر لتخيل أين تبدأ وأين تنتهي، كل شيء عائد إليها. ويأتي قمع المثقفين على رأس أعمالها، بزعم أن تدخلات المثقفين تقيد حريتها في توفير الأمان والرفاه للشعب، وتوحي بأن حرية الحكومات الدكتاتورية تكمن في تكميم المثقف وتغييبه.

طالما الثقافة تتصدى لدعاوى استباحة الأنظمة للبشر، بينما هذه الطروحات في العالم العربي، ليست مبتدعة ولا مبتكرة، وطالما الأنظمة تستبيح البشر، فالثقافة تابع للسلطة، وبالضبط للأجهزة الأمنية. الدكتاتوريات اليوم لا تمزح، بل تكذب وتقتل، ما دام التعامل مع الثقافة على النمط النازي والستاليني.