أخذ تكبيل العقل زمنا طويلا من عمر الوطن السوري، وما زال. بدأ مع صبيحة الانقلاب الأول، بموجب اعتقاد العسكريين بأنهم سيفلحون بالدبابات بما أخفق به السياسيون في المجلس النيابي. تفاقم هذا الاعتقاد مع استمرار العسكر في التدخل بشؤون البلاد، والسعي للهيمنة عليها، إلى أن استقر على الانقلاب الأخير، وإذا كان أصحابه قد أطلقوا عليه وصف “الحركة التصحيحية”، فلأن الانقلابات أكدت عجزها المطلق عن إجراء تغييرات جذرية حسب وعودها، بقدر ما أثارت النزاع على السلطة وما أدت إليه من تصفيات، وكأنه بتغييب إعلان “البلاغ رقم واحد” يُلغى وصفه بالانقلاب، ويبطل ما يستجره من ويلات وخسارات عسكرية على الحدود.

لم تصحح الحركة بقدر ما رسخت هذا العجز، ما راح بالبلاد إلى دولة شمولية، عمادها الأجهزة الأمنية، تغطيها من أدناها إلى أقصاها. لم يبق من الدولة بعد نحو نصف قرن، إلا ما تركه لها أربعة احتلالات من خراب شامل، واقتصاد منهار، وسيادة بلا سيادة، واقتطاع مناطق وقواعد ومطارات، وفرض امتيازات واستثمارات، واختراق النسيج المجتمعي بدعاوى مذهبية.

تحت سلطة النفوذ الروسي والإيراني، يدير القصر الجمهوري، تحالف النظام والعسكر والمخابرات ورجال الأعمال، يتقاسمون المنافع، كوكلاء عن العائلة المالكة، يعملون لحسابها في تسيير اقتصاد يعمل على إدارة النهب العام، لا تلبية احتياجاتها الضرورية. بينما يحاول حزب البعث بعث الحياة في إيديولوجية مفلسة، تهتدي بالفساد، إن كانت تسهم بشيء، فبتمتين شكليات الاستمرار بالهتافات والشعارات، وتحويل المعارضة إلى خونة، واستثمار الإرهاب وتسويقه.

يتجلى تكبيل العقل بوضعه في قوالب بائسة، تعمل على تجفيفه، والتخفي وراء علمانية انتهازية، ودين وصولي، وقومية مستهلكة، ومحفوظات ببغائية

يتجلى تكبيل العقل بوضعه في قوالب بائسة، تعمل على تجفيفه، والتخفي وراء علمانية انتهازية، ودين وصولي، وقومية مستهلكة، ومحفوظات ببغائية، بترديد الشعار صباحًا في المدارس والقطعات العسكرية، وتلقين الطلبة دروس القومية، واستظهار منطلقات حزب البعث، وابتداع منظمات شعبية مشلولة، ومسيرات مُسيّرة، والاحتفالات بانتصارات كانت هزائم، والتهليل لتنصيب الرئيس الدوري سواء بالمبايعة أو الاستفتاء وتزوير صناديق الانتخاب… كل هذا على وقع تردٍ يومي، يتناوبه الغلاء وارتفاع الأسعار وعدم استقرارها، وتدهور العملة المحلية، مع فقدان الخبز والأدوية والمازوت والبنزين والغاز وتقنين الكهرباء والتقشف الإجباري.

مؤخراً تكالبت جميع هذه الخطوب على الناس، أصبحت طوابير الخبز والمحروقات من طبيعة الحياة اليومية، مع السماح المضبوط بالتذمر، للتنفيس عن القهر، أي مسموح بالتذمر على شاكلة المسرحيات الانتقادية الخفيفة، والتمثيليات الرمضانية، بالاستخفاف بالأزمات، وتحويلها إلي طرائف، فتنتقد نفسك وتسخر من الزحام على الأفران، وتستظرف انقطاع الكهرباء، والعيش في الظلام، تنكت عليها فترفه عنك، وتضحك عليها، وعلى نفسك. هكذا يجري التكيف مع البؤس، ما عُدّ انتصارا لنظام لا يأبه بالبشر… لكن لا لتشغيل العقل.

عموما، تتبدى مشكلة العقل في تبديد الحرية لحساب الطاعة والصمت، وتضييق الخناق عليه، فالأنظمة الشمولية تعمل على تعطيله، بمزاعم شتى، فمرة لحسابات المقاومة، وأخرى للصمود، وربما للتصدي، أو الممانعة، تحت مبررات قومية ووطنية وسياسية زائفة، كما لحسابات إصلاحات قادمة، لكن كما المعتاد، كل شيء مؤجل. فالنظام، يعرف كل شيء، المشكلات والأخطاء وأساليب معالجتها، فلماذا تشغيل العقل، ما دام ثمة عقل جبار يدبر أمور الناس، بإهمالها وعدم تدبيرها، ويدير حياتهم بتقييدها بإجراءات ومراسيم وقوانين، وتعليمات وإرشادات، تواكبها بين فترة وأخرى خدعة الأعطيات والمكرمات. فيعتاد الناس على تلقي الأوامر، من دون مناقشتها، ولا غرابة في أن الدولة تطلب منهم اليوم، ما سبق أن منعتهم عنه البارحة.

قد يخطر للبعض التحذير من ذكاء الأنظمة، والأولى التحذير من غبائها، إذ لا قيام لدولة ولا لنظام إلا بشعب حرّ، شعب يفكر، شعب لا تقمع طاقاته، تطلق إمكاناته، ولا تحبط قدراته. توظف الدكتاتوريات ذكاءها بشكل غبي، حسب ظنها تعمل بشكل استباقي، وتكرس قواها إلى السيطرة الكاملة، فتجير قوانينها وشرطتها ومخابراتها لزرع الطاعة المطلقة، وإدراج البشر في منظومة عامة، تصبح هي الإطار الحديدي للتفكير وعدم التفكير، فتنبه إلى الأخطار الناجمة عن طرح الأسئلة، لا تساؤل عن الأسباب: لماذا وكيف ومتى؟ فالهدف المنع،. النظام غير ملزم بالجواب، يتصرف كما يشاء، دونما موانع، فيصبح ما يجري عادياً، كأنه من طبيعة الأمور، أو نتاج نقمة إلهية.

يقود التحكم بالعقل إلى محاولة تعطيله عن التفكير، والعمل على إلغائه نهائيا من الفعل، دونما عمل حساب لمطلب الحرية، ما يؤدى إلى الصدام مع السلطات، إذ دائما ما كان النزوع إلى الحرية وعدم التنازل عنها، مطلبًا مهما غاب، فحضوره لا مفر منه، ما شكل خطراً على الطغيان، لذلك تواجه الأنظمة شعوبها بالاعتقالات والسجون، وقد تصل مكافحة الاحتجاجات إلى عدم التردد في القضاء عليها بالإبادة.

معركة الحريات، مهما كانت طويلة، فخاسرة للدكتاتورية، ورابحة للشعوب، ما دام أن العقل يخوضها، لذلك كان الحجر عليه سلاح باطل لا يدوم. فالعقل، العدو اللدود للدكتاتوريات، قانونه معروف، يعمل حسب منطق يمنحه مطلق الحرية حتى في مراجعة مبادئه الأساسية وبديهياته المسلم بها، العقل على تضاد مع القسر والجبر والإلزام. يبيح له محاربة كل ما هو شمولي، وإعادة النظر بكل ما هو تقليدي، وما يعيق عن مواكبة الحياة، فالعقل دائب التحرر من القيود.