هل الفن مكلف بمهمة؟ يحيلنا هذا السؤال إلى غير ما هو مطلوب منه، قد يوحي بأن المهمة وطنية أو أيديولوجية. الأجدى طرح السؤال على النحو التالي: ما هي غاية الفن؟ أجاب عنه الشاعر عزرا باوند، عندما سألته إياه سيدة أميركية مهتمة بالفن. فأجابها: “اسأليني ما الغاية من باقات الورد؟”. كانت السيدة في الواقع تتساءل عن موقفه عشية الحرب العالمية الأولى، وكانت على وشك أن تندلع، والجيوش تتأهب للقتال، فالسؤال هو، ما الذي يمكن للفن أن يفعله، ونحن نشهد احتمال قيام حرب في أوروبا؟ فكان الجواب، ليس بوسع الفن إلغاء الحرب، ولا تعطيلها، أو حتى تأخيرها؛ إنه عاجز تمامًا.

لا يستأنس العسكر بالفن، ولا يستأذنون الفنانين بإحلال السلام، ولا يعطون أذنًا مصغية لنداءاته. ففي العالم، بعد حربين عالميتين، لم تتوقف منذ عقود الحروب بأنواعها الأهلية والإقليمية، كانت البديل عن الحروب العالمية الساخنة والباردة، من دون أن يبذل المجتمع الدولي جهدًا فعالًا لوضع حد لها، على الرغم من قدرته على إيقاف الصواريخ والطائرات والبراميل المتفجرة، على الأقل ألا يبيع السلاح للبلدان التعيسة التي ابتليت بأنظمة دكتاتورية تقتل شعبها.

الحرب السورية وحدها قتلت آلاف الأطفال في عمر الزهور، عومل الأطفال الذين يمثلون البراءة على أنهم إرهابيون. لا تخفي صورهم عذوبة طفولتهم الغضة، إن أجمل ما حبانا الله به، يقتل بكل همجية ببراميل طائرات الموت، لم ينجح المظلومون حتى هذه اللحظة في إسماع العالم أصوات عذاباتهم إلى التوقف عن القتل الممنهج بمختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة…. فالعالم لا يسمع. هذا كي نُسقط دعوات الفن الجميل من حساباتنا، ولا نعول عليه.

لا يستأنس العسكر بالفن، ولا يستأذنون الفنانين بإحلال السلام، ولا يعطون أذنًا مصغية لنداءاته

لا يتخلف الفن عن مسيرة التاريخ، ليس من باب تصنيفه حسب العصور، وإن كان كل عصر يمنحه طابعًا يُعرف به، بدعوى احتلاله موقعًا مؤثرًا عبر الزمن، قد يكون المؤثر احتجاجيًا، أو ثوريًا أو انقلابيًا، لكن في مجال الفن فقط، وإن كان أسوة بالأدب يجيل النظر فيما حوله، ويستمد منه طاقته على التعبير.

وربما في التساؤل عن توجه الفن في الحروب نحو البشاعة، ما يدل على مشاركته بلعنة الدمار، وقد ارتدت عليه. ففي ألمانيا أطلقت الحرب العامة الأولى الحركة التعبيرية، مثّلها كبار الفنانين الألمان مثل إرنست بارلاخ وتشارلز كرودل وأوتو ديكس وإريك هيكيل وأوسكار كوكوشكا وفرانز مارك وإميل نولدي وكارل شميت… لم تكن لوحاتهم تمثل عظمة ألمانيا، بل المآسي التي ترزح تحتها، فلوحة “المعاقون” 1920 تصور بأسلوب كاريكاتوري أربعة من قدامى المحاربين المشوهين، لم يبتدعها ديكس، بل كانت مشهدًا مألوفًا في شوارع برلين بعد انتهاء الحرب، غير أن اللوحة اعتبرت مهينة للجنود الألمان، وسخرية من العظمة الجرمانية.

بلغ ازدراء الفن التعبيري لدى النازيين إلى حد وصفه بالفن المنحط، وعلى سبيل الانتقاص منه أقيم معرض باللوحات المغضوب عليها، للترويج لفكرة أن الحداثة كانت مؤامرة من قبل أشخاص، يكرهون الحشمة الألمانية، وجرى التعريف بهم على أنهم يهود وبلاشفة، رغم أن 6 فقط من بين 112 فنانًا في المعرض كانوا يهودًا.

استهان هتلر بالفن التعبيري وعمم احتقاره له في الدولة، اعتبره وصمة عار، فلوحق الفنانون وصودرت نتاجاتهم، ولم تقل العقوبات عن إذلالهم، بفصلهم من وظائفهم في التدريس، كما حظر بيع لوحاتهم. وعرضت أعمالهم المصادرة في معرض صمم للاستهزاء بها، وقامت الدعاية النازية بالترويج على أنها مهينة للدين والنساء والجنود والمزارعين … حتى إن لوحات الطبيعة اعتبرت أنها صورت كما تراها العقول المريضة.

روج النازيون للوحات والمنحوتات التي كانت تقليدية، وبأساليب تعلي من شأن قيم “الدم والتراب” وركزت على النقاء العرقي والنزعة العسكرية والطاعة العمياء، هذه هي الدولة الشمولية في فترات صعودها وإقامة دعائمها، خلال مرحلة الاستعداد لإطلاق عدوانيتها في الداخل والخارج. بالمقارنة مع النظام السوري، لم يبلغ الخيال بالموالين له أكثر من رفع قيمة البوط العسكري فوق الإنسان، ولا غرابة، الدول الشمولية إن لم تتحدث بمنطق واحد، فالمنطق متشابه، ودائما إلى إسفاف.

روج النازيون للوحات والمنحوتات التي كانت تقليدية، وبأساليب تعلي من شأن قيم “الدم والتراب” وركزت على النقاء العرقي والنزعة العسكرية والطاعة العمياء

الفن تجربة محملة بطاقات متنوعة، ليس الجمال فحسب، فالفنان يتحسس الواقع، وما وراء الواقع، ويوظف الخيال والعواطف والطبيعة والبشر، سواء بشكل واضح أو غامض، لكنها تبلغ مراميها، بما ينعكس على الناس بشتى الانفعالات، قد نتأملها ولا نستطيع تفسيرها، تبدو عصية على الفهم، لكنها تشحننا بالإعجاب والنشوة، وربما باليأس والإحباط، حتى المتعة قد لا تكون جمالية بحتة، لكن لا تغيب عنها، رغم أن اللوحة قد تكون مؤلمة أو تبدو منفرة، وربما بشعة. تتبدى في تجريد الجمال من جماليته المألوفة إلى جمالية من نوع لا نرتاح إليه، فيلاقي الفن صدوداً من الجمهور، لا يمكن أيضًا استبعاد عدم الفهم من الفنان ذاته، فيعجز عن شرح ما يرسمه بإحساسه ومشاعره.

ليست البشاعة صناعة الفن الحديث فقط، إنها صناعة العالم بالدرجة الأولى، صناعة الدكتاتورية والحروب والفساد والعنف والقمع والاستغلال والخراب… هل بوسع الفنان النجاة منها؟ إذا اخترقت أعماقه، أفلن تمس فنه؟ لن يكتسي التعبير عنها أهميته، إلا بمغامرة تشويه الفن نفسه.