يجد بعض الطامحين إلى السلطة في الشعبوية ملهمًا طيبًا يساعدهم على تحقيق آمالهم، لما توفره من فرص في ضخ أفكارهم بين الناس، فالجماهير مادتها وهدفها. كما تشكل أحد العوامل المنشطة لنشوء الدكتاتوريات وصعودها الكبرى. وكان لما أحرزته من نجاحات، ما أسقط بلداناً تحت هيمنة التطرف القومي والعنصري والديني.

تعتمد الشعبوية، الشعارات الوطنية ذات الطبيعة القومية المتشددة، ما يمنحها المادة والذخيرة والحافز لتتعيش عليها دكتاتوريات باطشة. استطاعت بعض هذه الحركات مؤخرًا فرض نفسها على المسرح السياسي، وليس من المبالغة القول إن جهودها لم تستثن بلدًا من الديمقراطيات الأوربية، ما شكّل تهديدًا للديمقراطيّة في عقر بلدانها.

باستعادة التراث الشعبوي لأوروبا في القرن الماضي، ذات الطابع العنصري، بدلالة الأمثلة الأكثر تعبيرًا عنها كالنازية والفاشية، والتي عرّضت كلًا من ألمانيا وإيطاليا لتجربة تاريخية استهلكت قدرات شعبيهما، بالادعاء بأفضلية الانتماء إلى أمة تتفوق على الأمم الأخرى، فقالت النازية بامتياز العرق، أي أن العرق الأبيض هو بالطبيعة وبالسلالة وبالدم، أكثر ذكاء من العروق البشرية الأخرى. كان فيها انحدار بالشعوب إلى الاعتقاد بسفسطات عبثية عن النقاء العرقي المزعوم، ضجت بهستيريا زعامات القوة والمجد. كانت الحصيلة الهزيمة والخراب، بعدما أودت بالعالم إلى حرب عالمية ثانية.

استغلت هذه الحركات حماسة الجماهير، بدعوات عاطفية على حساب العقلانيّة، وقدمت نفسها على أنها المدافعة الحقيقية عن الهوية الوطنية بشن حملات خطابية نارية تهاجم الحكومات القائمة، وطالبتها بالتعلم من الشعب العظيم، والالتحاق به، لا أن يكونوا قادته. عمل على هذا المنوال البلاشفة الروس ضد القيصرية، والنازيون الألمان لاستنهاض بلدهم بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى والكساد الاقتصادي، والمكارثيون الأميركيون ضد اليسار الأمريكي في الثقافة والفن… وحاليًا، لا تخفي بعض الأحزاب توجهاتها العنصرية، ودعوتها لإقامة نظم ديكتاتورية في حال تسلمت الحكم.

ينتزع الشعبويون من الأحزاب الأخرى حق التكلم باسم الشعب، ويستغلون الأزمات السياسية والاقتصادية، وفترات الكساد، فيسرفون بالوعود، ويزعمون أنهم يفتحون آفاقًا جديدة، بدعاوى وادعاءات تهيب بالناس التحكم بمصيرهم ومستقبلهم، وعدم الخضوع لسيطرة أي جهة سواء في الداخل أو الخارج، أو التعرض للخداع. فيتدخلون في الشأن العام، ويطالبون بمعرفة ما الذي يخطط للبلد من مشاريع، والعمل على مواجهتها.. فيضعون من العقبات، ما يحث على إجهاضها، ولو كانت المشاريع جيدة ومفيدة. مستهدفين تحريض المشاعر غير العقلانية لدى الجماهير وتوجيهها ضد النخب السائدة، فتثير طروحاتهم الأخيلة الجامحة إلى التغيير.

تطرح الحركات الشعبوية نفسها على أنها حركات احتجاجية، مدافعة عن الهوية، فتركز دعاواها حولها، وتطرح هذه المسألة، من باب ضرورة حماية البلد من موجات الهجرة. فتطالب بطرد العمال المهاجرين، وتدعي أنهم سبب انتشار البطالة، ما يؤدي إلى نشوء ظاهرة العداء للغرباء، وترفع شعارات تزعم أنها تدافع عن مصالح الشعب، وربما لقمة عيشه. وتدعو إلى تنظيف البلاد من العناصر غير القادرة على الاندماج في النسيج الاجتماعي، وقد تنال من أديانهم وتجعلها عائقًا في التعامل معهم. على هذه الأرضية من العنصرية والتطرف القومي والتمييز، تنبثق برامجهم السياسية، مع أفكار اقتصادية راديكالية، ونزوع انتهازي إلى الاشتراكية والمساواة، تهدف إلى تجنيد الطبقات الفقيرة إلى جانبها. وعادة ما تحرز تقدمًا على حساب تخلف الأحزاب السياسية، بتبني خطاب ديماغوجي، يعادي السياسة، ويركز على السيادة، وتوجه خطاباتها إلى الشعب باسم الوحدة الوطنية، وتطالب بإلغاء جميع الحواجز بين الحاكمين والمحكومين، ما يشكل أسلوبًا من اللعب على العواطف، واستغلال المواطنين العاديين وذلك بالتشكيك في الآخرين.

في العقود الأخيرة، احتل التيار الشعبوي مكانة متقدمة في مخاوف السياسيين، بدا وكأنها ستكتسح العالم بعدما أحرزت تقدمًا في بلدان الديمقراطيات الأوروبية، أدى إلى تصاعد خطاب الكراهية، وإن لم يصل هذا التيار إلى الحكم إلا نادرًا وبشكل محدود. كان من جرائه انتقاد مسيرة التوحيد الأوروبي، والتشهير بها على أساس أن مثل هذا التوجه لا يحترم السيادات القومية للبلدان التي سيتشكل منها. وكان من الطبيعي ألا تخفي السياسات الشعبوية عداءها للعولمة، أو توجهاتها النازية ودعوتها لإقامة نظم فاشية في حال تسلمت الحكم.

إن الاعتقاد الذي سقط في وهمه كل من فرنسا والنمسا وإيطاليا والبلدان الإسكندنافية في نهاية عقد الثمانينيات الماضي وحتى خلال العقود الأولى من هذا القرن، هو أن الدعوات الشعبوية لم تكن أكثر من “حمى انتخابية” ستخمد سريعًا لارتباطها بالسياق المباشر للديمقراطية التي أنتجتها، كانت رؤية قاصرة عن فهم أبعاد ظاهرة الشعبوية، وقدرتها على الاستمرار، وأن أي تقدم لها، يؤدي إلى تراجع للديمقراطية، وإن كانت المفارقة تشير إلى أن الشعبوية تزدهر، أو تجد لها متسعًا في الزمن الديمقراطي، فحرية الكلام تسمح بإطلاق حتى ما هو مضاد للديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة. وفي الواقع، لو لم تواجه هذه الدعوات منظومة قيم راسخة في عدد من بلدان الغرب، لما كان لها القدرة على تشكيل مانع صلب من الانفتاح والتسامح ومناهضة العنصرية.

من هذا المنظار يمكن القول، إن الغالبية العظمى من الأنظمة العربية، لا تخفي شعبويتها، استخدمتها بما يتلاءم مع ما طرحته من شعارات، وما كان أكثرها عن الحرية والاشتراكية والوحدة والعدالة الاجتماعية والتحرير والمقاومة والتصدي…. وإذا كانت لم تشك من الهجرة، فلأنها من كبار الموردين للمهاجرين إلى الغرب هربًا من عسف السلطات، على حد شكلت الهجرة السورية مؤخرًا، وكانت بالملايين، إحدى أكبر الهجرات من شعب واحد، في الوقت الذي يفترض بالنظام السوري بعد استقرار الحكم، ومضي خمسة عقود على دولة البعث، أن تكون شعاراته لم تعد موضوع بحث، بعد انتقالها إلى مرحلة أخرى، كان الإنجاز الأبرز تحت راية الأسد، السجون، وفقدان الحريات، وشعب يفتقد لكل شيء.