في قول للمفكر ستيوارت مل “حرية الرأي تعني أن يُسمح للأصوات جميعاً أن تُسمع، لا لأنها صائبة، بل لأنّ في تعدّدها ضمانة لظهور الحقيقة”، أي أن تعدد الأصوات يُظهر الحقيقة، لكن ماذا لو أصبح مناسبة لدفن الحقيقة في ضوضاء الكذب والتزييف؟ هذا ما يُخشى منه، وهو واقع الحال.
كأنما صادف أننا وجدنا أنفسنا فجأة نتمتع بـ حرية الرأي والتعبير، دونما تقدير أنها لا يمكن أن تكون مطلقة، وليست خارج نطاق القانون أو القيم، إنها مقيدة فقط من ناحية أنها يجب أن تُمارَس في إطار من المسؤولية، فالحرية ليست حرية الاتهام والشتائم وترويج الشائعات، لن نجد من يحسن استغلال هذه الحرية أكثر من الذباب الإلكتروني، وأنصاف الإعلاميين، والمرتزقة من دكاكين المنظمات اللاإنسانية، والمثقفين المحترفين من أصحاب الأجندات الأيديولوجية.
إن الحفاظ على حرية التعبير لا يعني الدفاع عنها أمام القمع والاستبداد فحسب، بل يعني كذلك رفض استغلالها في ما يُسيء إليها ويفقدها قيمتها. فحين تُستخدم غطاءً لممارسة الانتهازية السياسية، أو وسيلة للتشهير، والادّعاءات الكاذبة. هذا الاستخدام لا يُدافع عنه، بل يشوِّه صورتها، ويدفع بالبعض إلى المطالبة بتقييدها، ظنّاً منهم أنه علاج لها، بينما يكمن العلاج الحقيقي في ترسيخ ثقافة احترام الحرية، لا في قمعها.
ثمّة توازن بين الحرية والمسؤولية، لا يحققه الانفلات
الحرية مسؤولية كبرى، وأبسطها حرية القول، فأن نقول، يعني ألّا نتقوّل، إنها وسيلة للتحاور والتفاهم، لم تتح لنا منذ أكثر من نصف قرن، ولم نتوقعها، وكان هذا كافياً لندرك كم هي ثمينة، أما لماذا نستهتر بها؟ فربما لأنها هبطت علينا تلقائياً ومن دون عناء، مع أننا لم نظفر بها إلا بعد عذابات وآلام، وكلفة هائلة بالأرواح، دفع الشهداء الموتى ثمنها الباهظ، وجاء الأحياء، ليتّخذوها وسيلة لتزييف الوعي، وكأنّ الإحساس بها لن يكون قوياً إلّا بالهدم والخراب، وإهدارها كيفما اتفق، ولو على التوافه، أما العظائم، فتصفية الحسابات السياسية والطائفية والحزبية، والتعويض عن هزائم كانت من نصيب أيديولوجيات التقدم، التي تواطأت مع علمانية الدولة الشمولية، تلك هي حضارة القمع تنحو إلى تجديد إقامتها في بلداننا على أمل استعادتها.
الحرية يعني أن تفكر بحرية وتكتب بحرية، متحرّراً من الانتماءات الضيقة، والأفكار المسبقة، ومن العداوة والكراهية والأحقاد، لا يمكن اعتبار أي تعبير عن الرأي مشروعاً لمجرد إطلاقه تحت مظلة الحرية، فالتحريض على الآخر، والإساءة إليه لا يندرجان ضمن حرية الرأي، بل التعدي على حقوق الغير، فكما للإنسان الحق في التعبير، فإنّ للآخرين الحق في الاحترام والحماية من التضليل. ثمة توازن بين الحرية والمسؤولية، لا يحققه الانفلات.
عانى شعبنا من الصمت وأُجبر عليه، ومنح الحق في الكلام، بعدما نسي الكلام، وكان ممنوعاً عنه، كان مسموحاً بمديح السلطة الغاشمة وتجريم من يقترب من الخطوط الحمراء أو يمسّها، بينما اليوم يبدو عمل بعض المهووسين هو الاستفزاز وإشعال الفتن ليكسبوا سمعة معارض، بينما في الواقع، فتح الأبواب للحرب الأهلية.
هذه الحرية، كغيرها من الحريات، لم تنج من العبث بها، سواء عبر ترويج الأخبار الملفقة، وتقويض السلم المجتمعي، وبثّ خطاب الكراهية والعنصرية، ونشر الفتن الطائفية، هذه الممارسات لا تسهم في بناء مجتمع حر ومسؤول، بل تكرّس الانقسام وتغذّي مشاعر العداء، تحت هذا الشعار نفسه “حرية الرأي”.
نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى فهم عميق لهذه القيمة، لا بوصفها مجرد حق، بل بوصفها واجباً أيضاً. الواجب في أن نختلف باحترام، وأن نُحاور بعقل، فالمجتمعات لا تُقاس بما تُتيحه من حرية فحسب، بل بما تُشيّده من وعي يحمي من الانزلاق إلى الخيانة، خيانة أنفسنا بالدرجة الأولى، بعدها تهون أيّ خيانة.
-
المصدر :
- العربي الجديد