الشائع أنّ الأدب العظيم يُبنى على الموهبة والمثابرة، ما يكفي لصناعة أدب مؤثر، بينما الحقيقة تقول إن كثيراً من العقول اللامعة والموهوبة لم تتمكّن من ترك بصمة حقيقية في عالم الأدب، لأن هناك عنصراً أساسياً آخر لا يمكن تجاهله، إنه الجرأة.
ولئلّا يذهب الظنّ إلى الجرأة في اختراق التابوهات الثلاثة: الدين والسياسة والجنس، وهي من الممنوعات التي تحرص الرقابة غالباً على عدم المساس بها، لكن هذا لا يصنع الأدب العظيم، فالممنوع اليوم مسموح به غداً. ما يعني أنه عائدٌ للمتغيرات، فقد يستجدّ ظرف يخرج رُواية من الغبار، وقد تنتهي حالة ترسل رواية إلى النسيان، فلندع هذه الروايات لمصائرها وتقلّبات الحظ.
تتبدّى الجرأة في الأدب العظيم في اختيار الموضوعات التي تهمّ الإنسان في الصميم، وذلك بالتعامل مع القضايا الإنسانية العميقة: الموت، والحب، والخيانة، والخوف، والمصير، واليأس… ولا تكفي الموهبة في السرد أو البراعة في التحليل، إذ لا يمكن تناول هذه الموضوعات في العمق إلا بقدر ضروري من الجرأة.
فمثلاً، لم يحقّق سرفانتس وبلزاك ودستويفسكي الشهرةَ، لأنهم كانوا الأكثر موهبة بين أبناء جيلهم فحسب، بل لأنهم امتلكوا الجرأة على كسر المحظورات. سرفانتس سخر من الفروسية في زمن كانت المكانة المرموقة تُمنح للفرسان، ما أسقط بعدها الحصانة حتى عن الأرستقراطيات، ومن ثم الدكتاتوريات. بينما امتلك دستويفسكي الجرأة على استكشاف أعمق الزوايا النفسية للإنسان، خصوصاً تلك الخطرة والمظلمة التي يفضّل الناس تجاهلها والخوف منها. كذلك الكتّاب العرب مثل نجيب محفوظ والطيب صالح اللذين غاصا في تعقيدات المجتمع الأبوي والتقاليد المتخلّفة.
لا يُمكن للعبقرية وحدها من دون الجرأة أن تصنع أدباً حقيقياً
وقد تكون الجرأة في الأسلوب، في عدم التقيد بالأساليب القديمة خوفاً من المغامرة أو إرضاءً للقرّاء، وما يحسب لجيمس جويس، في روايته “عوليس”، ليس عبقريته المشهود بها في اللغة والبناء فقط، بل جرأته في تحطيم أُسس الرواية التقليدية، ما جعله أحد أكثر الكتّاب تأثيراً في القرن العشرين. كذلك، في الأدب العربي، نجد روائيين أحدثوا قفزات نوعية، مثل إميل حبيبي في “المتشائل” أو الطيب صالح في روايته “موسم الهجرة إلى الشمال”، ما تحقّق كان لأنهم امتلكوا الجرأة على المألوف وكسر القواعد.
ربما كانت الجرأة الأهمّ هي القدرة على الصدق الأدبي، إذ بوسع أي كاتب أن يختلق قصصاً أو يصنع شخصيات معقّدة، أو يفبرك أحداثاً، لكن ليس كلّ كاتب يملك الشجاعة ليكتب بصدق حقيقي، ذلك الصدق الذي يجعل الأدب مؤثراً.
الصدق هنا لا يعني فقط كتابة ما هو حقيقي أو واقعي، بل يعني أن يكون الكاتب مستعدّاً لمواجهة ذاته قبل أن يواجه الآخرين. أن يكتب عن الأشياء التي يخشاها، أن يعترف بضعفه، أن يعرّي الإنسان بكل تناقضاته، وأن يكون على استعداد لدفع ثمن هذا الصدق. فمثلاً، في “اعترافات” جان جاك روسو، نجد مثالاً على الجرأة الصادمة والصادقة، في عدم تردده في الحديث عن لحظات ضعفه وخطاياه إلى حدّ تخليه عن أولاده الرُّضّع للمياتم، وهو ما جعل كتابه يعتبر حتى الآن أحد أكثر الأعمال الأدبية تأثيراً في السيرة الذاتية.
في النهاية، لا يُمكن للعبقرية وحدها أن تصنع أدباً حقيقياً، ولا يمكن للموهبة أن تكفي لصنع نصوص مؤثّرة. الأدب العظيم يحتاج إلى الجرأة: الجرأة في الموضوع، الجرأة في الأسلوب، الجرأة في الصدق.
-
المصدر :
- العربي الجديد