كان تراجع دور المثقف في العقود الأخيرة عاملا مهما في تغييبِه عن المفاصل الكبرى في حركة السياسة التي تصدّرها رؤساء ديكتاتوريون وسياسيّون عنصريون وحكومات باطشة ورأسماليون أوزانهم بالمليارات، ينشدون لعب أدوار محورية في تشكيل المتغيّرات الكبرى في العالم. لذلك تكتسب الحاجة إلى المثقّف ضرورة كبرى، لئلا يحلّ محله رواد وسائل التواصل بعفويتهم الديماغوجية؛ الجمهور الثمين للأنظمة الشمولية، ما دام الذباب الإلكتروني يتلاعب بهم.

لا يمثّل المثقف فقط الشخص الذي يمتلك المعرفة النظرية، بل هو أيضاً ذلك الفاعل الاجتماعي الذي يهتمّ بالشأن العام، لا ينقاد للقطيع، ويستخدم الفكر لتفسير الواقع. أصبح وجوده محسوساً منذ أطلق زولا صيحته “إني أتهم” وغدا بعدها من الطبيعي أن يكون في صلب التحوّلات السياسية والاجتماعية والفكرية، سواء من خلال إنتاج الأفكار أو من خلال التأثير المباشر في مراكز القرار أو في وعي الناس. أصبح العصر الذهبي للمثقفين على مدى قرن كامل، كانوا خلاله وراء المتغيرات في العالم.

من هذا المنطلق، لعب فلاسفة التنوير من قبل، مثل فولتير وروسو، ريادتهم، لم يكونوا قادة سياسيين، لكنهم أسهموا في تغيير النظام الملكي المطلق. لعبوا دوراً أساسياً في تأسيس المفاهيم الجديدة عن الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، ووضعوا الأسس النظرية التي استندت إليها الحركات الثورية لاحقاً في العالم.

لم يعد المثقف يحتكر المعرفة، بل صار جزءاً من شبكة تأثير متبادل

لا يكتفي المثقف بنقل المعرفة أو تحليل الواقع فقط، بل يتحمل مسؤولية أخلاقية في توجيه المجتمع. فجان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي، إضافة إلى ما طرحه من أفكاره الوجودية، ندّد بالاستعمار الفرنسي للجزائر والحرب في فيتنام، وكان ذلك في مناخ رفض فيه المثقفون السياسات العنصرية ضد السود، واضطهاد المثقفين وحرية التعبير خلال محنة المكارثية. فالمثقف يتحوّل إلى ضمير المجتمع، يعبر عن القيم الإنسانية ويدافع عنها ضد السلطة، حتى لو كانت ديمقراطية.

مؤخراً، مع دخول العالم عصر العولمة والانفجار الرقمي، لم يعد المثقف هو الشخص الذي يحتكر المعرفة، بل أصبح جزءاً من شبكة واسعة من التأثير المتبادل. فقد مكّنت وسائل التواصل الاجتماعي المثقفين من الوصول إلى الجماهير بشكل مباشر، لكن ذلك أدى إلى تضخم أصوات غير المؤهلين، وتساوت مع ثقافة لم تتفرّد بمساحة تجعلها المؤثّر الوحيد، فالشغب كان لها بالمرصاد، ما جعل التأثير الثقافي محل منافسة غير عادلة من رواد الفيسبوك أنصاف المثقفين وأرباعهم والذين بلا ثقافة، والمؤدلجين السفهاء، وبالتالي انعكس سلباً وبشكل سطحي على الفكر، سرّعت به هيمنة الإعلام والاستهلاك السريع للأفكار.

مع ذلك، فإن دور المثقف لم ينتهِ، بل تغيرت أدواته. لم يعد المثقف يعتمد فقط على موقعه السياسي والفكري، بل أصبح مطالباً بالتكيّف مع وسائل الاتصال الحديثة، ما أدى في العصر الحديث إلى مواجهة تحديات جديدة إذا كان حريصاً على أن يمارس دوره الفعّال في فهم ما يتطلبه المجتمع وما بحاجة إليه، ولا يطمح ليكون القائد المباشر للأحداث، وإنما ذلك الصوت الذي لا يستطيع غيره القيام به، وغير كفء له، صوت يفسّر الواقع ويضع أسس التغيير. أي أن ينزل إلى الأرض لا أن يتوارى، ويصبح الناقد البديل عن محاكم التفتيش والضمير، بينما تأثيره هو ما يمتلكه من معرفة حقيقية وصلبة، تؤهّله للبقاء ذلك العنصر المحفّز على التغيير في الشارع والمجتمع.