من الظواهر الأبرز التي تشهدها سورية منذ سقوط النظام، ظاهرة “التكويع”، المصطلح الذي تعارف عليه السوريّون لوصف إشهار بعض رجال النظام البائد مواقف على النقيض تماماً من مواقفهم السابقة. فبعدما كانوا موالين أقحاح، انقلبوا رأساً على عقب، إلى موالين منافقين، كأنّ شيئاً لم يكُن من قبل، فالمكوّع يُسارع لمحو تاريخه السابق من دون تمهيد، فالوقت لا يتّسع للتدرُّج، ربّما حظي بمنصب ما، أو على الأقل نال فرصة التبرُّؤ من ماضيه.

يُلاحظ أن التكويع يتم بأنفة وكبرياء؛ حيث يظهر المكوّع تأييده للسلطة الجديدة، وكأنه يُسدي إليها معروفاً يجب أن يُكافأ عليه. هذا السلوك قد يحصل، حتى لو كانت يداه ملوّثتين بالدماء أو كان سبباً في أذى للغير، أو استغلال منصبه، ما سبب أضراراً، حقّقت له مكاسب شخصية كان فيها نهب للمال العام أو الخاص.

عموماً، يُمكن اعتبار التكويع بهذا الشكل دلالة على الانتهازية، مع أن الفعل في ظاهره يبدو “مقداماً”، إلّا أنه عند التدقيق نرى أن الهدف الحقيقي هو السعي إلى مكانة أو الحفاظ عليها، أو القفز عن تجاوزات خطيرة. المشكلة الكبرى تكمن في أن “التكويع” بات يحدث دونما إعلان عن اعتذار صريح بخصوص ما ارتكب من أخطاء خلال ممارسة وظيفة أدّت إلى جُنح وربما جرائم، أو لا تخفي جنوحاً غير أخلاقي.

ليس الاعتذار طبعاً من سلطة جديدة بل من الشعب الذي ضحّى

إن غياب الاعتذار الواضح يُفقد “التكويع” مصداقيته؛ ففي الاعتذار اعتراف بالخطأ وطلب للمسامحة. إن المصالحة الوطنية كي تكون فعالة وحقيقية لا تتحقّق بلا مصارحة، من دونها تصبح مجرّد شكل من أشكال التحايُل، تحمل في طيّاتها احتمال تكرار جرائم الماضي في المستقبل.

ممارسة الاعتراف بشفافية مع الاعتذار، يُظهر امتلاك جرأة الانتفاض ضدّ سلوكيات منحرفة، لن يكون التسامح بالمقابل من السلطة، إلّا مؤشّراً على بُعد نظر النظام السياسي الجديد، ودليلاً على أن السياسة الصحيحة والناجحة قادرة على تنفيذ ما وعدت به خدمة للصالح العام.

أما إذا استصعبوا الاعتراف بما ارتكبوه من أخطاء واعتبروه مذلّاً، واستكثروا الاعتذار واعتبروه مهيناً لمشاعرهم وما احتلّوه من مناصب، عندما كانوا سادة الوطن، مع أن هذه السيادة أو السلطة التي تمتّعوا بها ليست إلا لأنهم كانوا رجال نظام مجرم يناصرونه ويتزلفون إليه، ويتمسحون به.

لا ريب، بالنظر إلى معاناة أبناء وطنهم في المعتقلات، عندما جرى التحقيق معهم تحت التعذيب اعترفوا بما لم يفعلوه، وذرفوا من الدموع والدماء بما يفوق أي اعتذار، وسُجنوا في زنازين لا تقلّ عن قبور لسنوات طويلة، أو أُرسلوا إلى المشانق. بالمقارنة معهم، ليس الاعتذار إلّا خطوة لا بدّ منها نحو المصالحة، وإذا كان الخجل أو الحفاظ على الكرامة يمنعهم، فلا إجبار على ما لا يطيقون. فالذين لا يريدون المصالحة، ليسوا في الحقيقة مطالبين بالاعتذار من السلطة الجديدة، بل من الشعب ذاته. فالشعب هو من عانى، وهو من سيغفر، ويستحقّ اعتذاراً واضحاً. فالضحايا ضحاياه.

الاعتراف الصريح، هو الحساب الحقيقي، ويتضمن بشكل جوهري محاسبة الضمير على ما اقتُرف خلال ماض لن يُطوى من دون اعتذار صادق، فالمسامحة ليست للآخر فقط، بل تشمل الذات، ومن دون تطهيرها، لن يزيدوا عن انتهازيين، يسعون إلى تبديل جلودهم، في حين أنها لصيقة بهم.