على مدار ما يزيد عن نصف قرن، تراكمت في الذاكرة الجماعية للسوريّين صُور مروّعة من المعتقلات، والمجازر طاولت مدنيين أبرياء دونما تمييز. كان الموت الحاضر الأكبر والأوحد، حتى بات من الصعب إحصاء الجرائم التي ارتُكبت أو حتى توثيقها بشكل كامل. هناك عائلات بأكملها اختفت بلا أثر، تحت ركام البيوت المهدّمة بالقصف الجوي، ورجال وشبّان أُبيدوا في ظلام السجون، ودُفنوا في مقابر جماعية. وهناك روايات عن اعتقال الأب والأُمّ والأطفال معاً؛ قُتل الآباء والأُمّهات تحت التعذيب، بينما احُتجز الأطفال في زنازين مجهولة، أو وُضعوا في دُور أيتام تحت أسماء مستعارة، وأُلصقت بهم ذاكرة زائفة. ما يعرفونه عن أنفسهم شيءٌ غامض، لكنّه ليس الحقيقة أبداً.

لم يكن الضحايا مجرّد أرقام، كان كلُّ منهم مأساة إنسانية، حُرمت من أي حقوق، فالزنازين عبارة عن مسالخ بشرية. تُمارَس فيها أبشع أنواع الإهانة والتعذيب النفسي والجسدي مع التجويع. تلك الفظائع لم تكن مجرّد تجاوُزات فردية من الجلّادين، بل كانت سياسة ممنهجة.

أمام هذا الواقع المرير، يُطرَح سؤال مصيري: ماذا يعني السِّلم الأهلي في بلد مُثقَل بهذا الكَمِّ من المآسي؟ هل يعني طمس الحقائق، والتغاضي عن معاناة الضحايا، لمجرّد إعادة الاستقرار واستمرار الحياة؟ أم أنّ العدالة شرطٌ أساسي لتحقيق السَّلام؟

مُحاكمة الجُناة خطوة أُولى من أجل الشِّفاء المجتمعي

هناك من يروّج لفكرة السِّلم الأهلي دون محاسبة، مُعتبرين أنّ العدالة الانتقالية قد تُشعل فتيل الفتنة من جديد، بينما الحياة تتطلّب تجاوز ما حدث، وكأن شيئاً لم يكُن، المستقبل ما يهمّ وليس الماضي، ولكن، أليس تجاهل آلام الضحايا وحقوقهم انتهاكاً آخر لكرامتهم، حتى بعد موتهم؟

إن مواجهة هذا الإرث الدموي تتطلّب عدالة حقيقية وشجاعة. لا يُمكن إرساء سلام مستدام من دون الاعتراف بالجرائم المرتكبة ومحاسبة المسؤولين عنها. فالعدالة ليست الثأر، بل ضرورة وطنية لضمان عدم تكرار هذه المآسي، وإن اعتقد البعض أنّ خيانة الذاكرة هي السبيل الوحيد للخلاص من دوّامة العنف، فالنِّسيان هو ترياق الانتقام، والوسيلة الوحيدة لمنع الدخول في أعمال عنف متبادلة تؤدّي إلى استعادة الحرب الأهلية التي مهما أنكرناها أو أخفيناها، فقد حدثت وشاركت فيها مليشيات طائفية مذهبية. لا نجهل أن الأغبياء ومنهم سياسيون ومثقّفون، يحرّضون تحت عناوين مشبوهة مشابهة، على إشعال فتنة يستفيدون منها لإسقاط السلطة الجديدة.

لا يُمكن بناء سلام حقيقي على النّسيان. إن تجاهُل الماضي سيفتح الباب أمام عودته، قد تبدو خيانة الذاكرة حلّاً سريعاً، لكنها في الواقع تأجيلٌ للمواجهة الحتمية مع الحقيقة. فالمجتمع الذي يدفن ماضيه دون محاسبة، يحكم على مستقبله بأن يظلّ رهينة لهذا الماضي.

العدالة الانتقالية ليست مجرّد عقاب للمجرمين؛ إنها عملية تهدف إلى تحقيق الإنصاف للضحايا. إن ترسيخ المصالحة الوطنية، يعني بناء نظام قضائي عادل ومستقلّ، لا يخضع لضغوط السياسة أو نوازع الثأر، بل يستند إلى مبادئ القانون وحقوق الإنسان. بدون عدالة انتقالية حقيقية، يصبح الحديث عن التسامُح والمصالحة شعارات فارغة. فالاعتراف بمعاناة الضحايا، وتقديم الجُناة إلى المحاكمة، خطوة أُولى نحو الشفاء المجتمعي. إنّ التجاهل المتعمّد، يُهدّد بإعادة دورة العنف من جديد.

في الوقت ذاته، يجب أن تكون العدالة وسيلة لبناء المستقبل، ما يتطلّب سرديات تصالُحية حقيقية، تعترف بالماضي دون أن تؤجّج الكراهية، وتفتح الباب أمام حوار وطني يشمل جميع الأطراف دون إقصاء. لذلك، يتعيّن على السوريين مواجهة ماضيهم بجُرأة، بلا إنكار أو تزييف. عليهم أن يكتبوا تاريخهم، ليكونوا قادرين على تجاوز آلامهم، والمُضي قُدماً نحو مستقبل مشترك يجمعهم كمواطنين متساوين، بغضِّ النَّظر عن انتماءاتهم الدينية أو العِرقية أو السياسية.

إنّ الخروج من دائرة الدَّم، يتطلّب إرادة سياسية صادقة، وقضاء مستقلّاً، إن توافرهما يسمح بعدم محو الماضي، وإنما تحويله إلى درس يحمي المستقبل. هذا هو مثلّث العدالة الانتقالية: الاعتراف، والمحاسبة، والمصالحة.

أما التحدّي، فيكمن في تحقيق التوازن بين حقّ الضحايا في العدالة وبين حاجة المجتمع إلى المصالحة، ولا عفو من دون محاسبة، والعدالة ليست الانتقام. إنما تعني بناء مجتمع جديد، وسورية جديدة، خالية من الكراهية، يسودها القانون.

ولا بأس بألّا يغيب عنّا، أنّ الذاكرة هي نحن، وما المصالحة إلّا مع الذات.