تمارس هوليوود تأثيرها في الأدب من رواية وقصة ومسرح وقد يلهم فيلم شاعرًا بقصيدة، بينما المعروف أن الرواية بالذات لها الفضل على السينما، ومارست عليها تأثيرها منذ بداياتها، منحتها قصص أفلامها، وفي ذلك تاريخ طويل من نقل الروايات إلى الشاشة الذهبية، كرواية “ذهب مع الريح” لمارغريت ميتشل، “المحاكمة” لفرانز كافكا، “مقتل طائر غرد” لهاربر لي، والكثير من الأفلام التي لم تكتسب الأهمية إلا لأنها اقتُبست عن روايات مرموقة، وأحيانا أكثر من مرة، كرواية “الحرب والسلام” التي لم توفرها شركات الإنتاج السينمائي لدول مختلفة، كذلك روايات دستويفسكي، ولا حاجة لذكر روايات أجاثا كريستي البوليسية التي شكلت زادا وفيرا للسينما والتلفزيون، ما شكل ضمانة للسينما من ناحية الإثارة، وارتد على شباك التذاكر، عدا الموثوقية بما تبثه من أفكار. مثلما تستثمر الجريمة، يحبط هزكيول بوارو المجرمين، حتى المحترفين منهم، ترجمة لمقولة “الجريمة لا تفيد”.
منذ عقود بدأت هوليوود رحلة معاكسة، وأخذت تنافس الأدب في موضوعات لا تنقصها الجرأة، ليست مقتبسة من الروايات، تكتب للسينما مباشرة، وأصبح من المعتاد ورود هذه العبارة التي قلّما ينجو فيلم منها “للكبار فقط، يحتوي على مشاهد فاضحة، أو عنيفة”. أي أنها تصنع الجنس والعنف، فالصورة يجب أن تضج بالإثارة الجنسية والأسلحة ومطاردات السيارات، فقد أثبت العنف أنه الأقدر على منحها الحيوية اللازمة. نعم العنف، لكن ممنوع على الصغار، وليس على المراهقين في العشرينات الذين تحفل شيطناتهم بالمغامرات الطائشة، مع أن الكبار أكثر ممارسة للعنف، من دون استثناء النساء، يعزى كلاهما استعمالهما فائض القوة إلى خلل نفسي أو تسيب مضاد للأخلاق المتشددة.
يكمن الحل لهذه المشكلة في حضور المسلم والعربي، فإذا كان مسلما، ينسب العنف إلى الدين الإسلامي حسب العلمانية المستقرة للسينما، فالإسلام منبع للقسوة، وإذا كان عربيا، فلون البشرة السمراء المسوغ الفعال، فلهيب الشمس محرض على الإجرام. لن ندخل في مماحكة، لا تزيد عن مهزلة، أثيرت مرارا، واعترف الغرب بخطل آرائه، وتصوراته المسبقة، لكن سرعان ما يستعيدها لدى كل حادثة.
عموما، يجد المدافعون عن المشاهد العنيفة، في هذه الأفلام تفريغا للنوازع الإجرامية لدى البالغين، وتنفيسًا عنها للذين لا يجدون الفرصة لممارسة العنف لعدم توفرها، عدا الجبن المتأصل بأنواع من البشر تستكين للكسل وتعادي النشاط، ما يجعل في النهاية المجتمع أكثر أمانًا.
أما المشاهد الفاضحة فالمدافعون عنها من دعاة التحرر، يقودون في الوقت نفسه حملات ضد التحرش الجنسي، ولو كان التحرش بالكلام، حتى الغزل أصبح مشكوكا فيه، ما أدى إلى تزمت على صلة بفضيلة مفتقدة، كأن النساء لا يرغبن، وليس لديهن نوازع عاطفية تتغلب على تحفظ لا جدوى منه. حسنًا، حتى العواطف اللطيفة باتت مدعاة للشك، وتحت الرقابة الصارمة. ولم يكن بلا سبب، فقد انكشف عالم من رجالات المجتمع؛ سياسيون ورجال أعمال، وإعلاميون ودعاة وأدباء وفنانون، يعتدون على النساء بالعشرات، شجعت الحركات النسائية على فضحهم، بعضهم قُضي على حياتهم الاجتماعية والسياسية والفنية، ومنهم من انتحر تحت وطأة التشهير به، أو توارى عن الأنظار في انتظار المحاكمة.
لن نتحرى في ما إذا كانت هذه الادعاءات صحيحة أم لا، أو مبالغا فيها، فالعشيقات السابقات لا يتورعن عن الانتقام ثأرا لأنوثتهن المهانة من ذكورية الرجل، أما اللواتي ذهبن إلى الفنادق والشقق المفروشة بأقدامهن، فلا حرج عليهن. على كل حال، الموضوع ليس هنا، بل في تصدير القيم، وفي الوقت نفسه تصدير قيم مخالفة.
هوليوود، الجهة التي أعلنت الحرب على التحرش، وكان ساريا في إمبراطوريتها بالذات ويشمل النساء والرجال معا، وكان جواز مرور للممثلات والممثلين على حد سواء لتمثيل فيلم، ولو كان دوراً في الكومبارس، فما بالنا بسلسلة أفلام، أو الوصول إلى الشهرة، أرقام المعتدى عليهن جنسيا كان مربكا لصناعة السينما. فلنتخيل أن هوليوود التي تصدّر قيم التحرر للعالم، وليس في هذا مبالغة، وتقدم أكثر الأفلام إنسانية، دفاعا عن حقوق البشر ضد السلطات كافة، وتجاوزات الإدارات وأحكام القضاء في أميركا نفسها، وكانت من أكثر الدعاة إلى العدالة والمساواة وعدم التمييز العنصري. ماذا لو كانت هذه القيم من صناعة صور متحركة فقط؟ بينما كانت تتخفى على فضائحها، ليس سنوات بل عقودا، وغالبا منذ بدأت صناعة الأفلام، ريثما تغدو غير مستهجنة، وتصبح تصرفا حريّا بأن يقتدى، ويا ويل من ينتقده.
في القرن الماضي، صانت هوليوود سمعة الحياة الخاصة لمشاهير نجومها، مثل كاري غرانت وروك هدسون وجيمس دين ومارلون براندو، والقائمة تطول. لم تكن جاذبيتهم الذكورية الخارقة سوى فبركة هوليوودية، فتخفت على مثليتهم، كانوا معبودي الفتيات والنساء، لتمثيلهم أدواراً تساعد على تجسيد رجال أحلامهن، فصنعت حياة نجومها على نحو فريد، على نمط صناعتها للأحلام. كانت فضيحة لو أن طوابير المعجبين، وكانوا يعدون بالملايين، عرفوا أن بطلهم المحبوب الذين ينسجون حوله أوهامهم، رجل مثليّ، لا يستهويه الجنس الناعم.
في دفاع متأخر، أحيل الموضوع إلى احترام الحياة الخاصة وفصلها عن أداء الفنان، أي أنه لا صلة بينهما، هل تجوز محاسبة الفنان على خيانة الوطن في السينما؟ هذا شأن الفن، كذلك لا يحق محاسبته على حياته الخاصة، إنها شأنه.
في الستينات من القرن الماضي، بدأت هوليوود في تحويل الحب في أغلب أفلامها إلى جنس مواكبة للثورة الجنسية التي أسهمت بإطلاقها، والتي بلغت في هذا القرن حدا من الإفراط والتفريط ، حدا انتشرت فيه دعوات تصر على التقليل من المشاهد الجنسية الصريحة في الأفلام، والاتهام بأن السينما تستغل الجنس بكثافة لتسويق أفلامها، والتساؤل في ما إذا كان ضروريًا؟ بعدما لوحظ أن الكثير من الأفلام المملة والسخيفة تُدرج مشاهد جنسية لا مبرر لها سوى جذب المشاهدين إلى شباك التذاكر.
الجنس لم يعد كافيا وحده، ليتركز العمل على سينما مزيج من الجنس والعنف، بعدما كانا منفصلين عن بعضهما بعضا، مزيج كان الأكثر نجاحًا، فمن لا يروق له العنف يستهويه الجنس وبالعكس، ولن يطول الوقت عندما ستصنع هوليوود متفرجًا مثابرًا على نمط، سيشهد اقبالا، لا يثنيها عن الاستمرار فيه رغم انتقادات تركزت على أنه يجب على العاملين في الأفلام والتلفزيون أن يفكروا بطريقة إبداعية كأن يعتمدوا الإيحاء بدلا من تصوير مشاهد جنسية صريحة، والاستعانة بالتكنولوجيا لجعل المشاهد تبدو حقيقية. خاصة أن أغلب هذه المشاهد مهينة للمرأة، إذ أنها تختزل أكثر النساء جمالا وموهبة، وربما براءة إلى كتلة من اللحم الشهي. وليس للممثلة الخيار، فإما أن تقبل أو تخسر الدور.
لم تتراجع هوليوود، اعتبرت أن أفلامها محتشمة بالنسبة إلى أفلام البورنو، وفي الواقع كانت تنافسها، فالبورنو مُنح حرية كاملة استُغلت على أسوأ وجه بعرض مقاطع فيديو تظهر عمليات اغتصاب لأطفال دون السن القانونية، أي أولاد قصر أقل من 18 سنة، يُستغلون جنسيا، وعمليات اغتصاب نساء وفتيات فاقدات للوعي. لكن هوليوود بدأت بالتسلل إلى ما يماثل هذه الصنعة الجنسية غير المتقشفة.
اليوم تجاهر هوليوود بمثلية رجالها ونسائها، بعدما أعترف بالمثلية على أنها الجنس الثالث، فبات مطلوباً تكريس هذا الاتجاه، وتأهيله للقبول ليس الاجتماعي فحسب، بل أصبح عابرا للقارات والدول.
صنعت هوليوود أفلام الحلم الأميركي، تمحورت حول الرجل الأبيض والكاوبوي والثراء والبذخ، والرجل الشرير، وغرف النوم، والجريمة والحرب والرعب ورومانسية الحب..، صنعت عوالم ما كان أكثرها، لم تتورع عن تحطيمها، فالقيم خاضعة للمتغيرات، ليس المهم، بأيها نؤمن أو نقتدي؟ وإنما في أنها تجارة جميلة، تخفي الأكاذيب والادعاءات خلفها، كذلك الحقائق، ماذا تكون الحقائق؟ أو يا ترى هل هناك حقيقة ليست أسيرة قيم متبدلة؟ فمثلا هوليوود كمصنع، لا تهتم فعلا بالمثلية، ولا بما يصبو إليه المتفرج أو يحبه ويكرهه، إلا من ناحية ترويج منتوجاتها لمستهلك بات لا يكف عن طلب الجديد مهما كان. أما القيم، فليست مضمونة، ربما لأنها خطرة، ما دامت غير موثوقة.
-
المصدر :
- مجلة الجديد