المطلوب من الحكومة كثير جدّاً، أكثر ممّا في طاقة حكومة مُستقرَّة ووضع مستقرٍّ، فما بالنا بعهد يُواجه خراباً شاملاً في السياسة والاقتصاد والحالة المعيشية المتردّية إلى ما تحت الصفر. لا يعني هذا تبرير العجز، أو التأخّر، أو حتى التقاط الأنفاس، ولا الكفّ عن توجيه الانتقادات، وإنّما المبادرة إلى المساعدة. نحن في الجانب نفسه مع الذين كان لجهدهم وتصميمهم وتضحياتهم الإسهام في تحرير سورية.

إنّ إعادة بناء سورية تتطلّب إعادة بناء الاقتصاد من خلال خطّة طريق واضحة للإعمار، وخلق فرص عمل للملايين. يجب البدء بتنظيف الدولة من العمالة الزائدة والوهمية، ثمّ إعادة تشغيلهم في قطاعات ذات مردودية. كما ينبغي دعم الشركات المحلّية وتحفيز التنمية، والتشجيع على الاستثمار الدولي من خلال توفير بيئة آمنة، ما يُشجِّع على عودة اللاجئين والنازحين إلى مُدنهم وبلداتهم وقراهم بعد تهيئة الظروف المناسبة. لا بدّ كذلك من الاستثمار في التعليم والصحّة والزراعة، مع مراعاة تحقيق الأمن الغذائي. ولا يُمكن إغفال أهمّية تحسين البنية التحتية الأساسية، من شبكات المياه والكهرباء والطُّرق، إلى جانب توفير بيئة داعمة للمشاريع الصغيرة والمتوسّطة، بما يُعزِّز الإنتاجية ويخلق فرص العمل… والقائمة تطول، نحن إزاء بناء دولة.

نحن الآن في بداية “الاستقلال الثاني”، الذي يختلف جذريّاً عن الاستقلال الأوّل عن فرنسا التي تركت وراءها مؤسّسات قادرة على القيام بالكثير من الأعباء، مثل الجيش والمجلس النيابي (البرلمان)، بينما هذا الاستقلال جاء في سياق تجريد سورية من قدراتها المالية، وتركها غارقة في الفوضى وحالة فقر هائل. لذلك، تتوجّه السُّلطة الجديدة نحو الدول العربية والغربية لضمان تدفُّق المساعدات الإنسانية، وتأمين الكهرباء، والغاز، والوقود، مع ضمان سيادة وطنية غير منقوصة، بمغادرة جميع القوّات الأجنبية للأراضي السورية.

سورية اليوم في حاجة إلى أن تكون نموذجاً للتعايش والتعدّدية

إنّ تحقيق السِّلْم الأهلي لا يتمّ إلّا من خلال تحقيق سيادة القانون بمنع الاعتقال التعسُّفي، وحظر الانتقام والثأر، واتّباع الإجراءات القانونية في التوقيف. كما يجب تقديم أولئك الذين ارتكبوا جرائم ضدّ الشعب السوري إلى العدالة، وفتح الباب أمام المصالحة الوطنية الشاملة. لا يُمكن تحقيق العدالة من دون بناء جهاز قضائي مستقلّ ونزيه، يعمل بعيداً عن الضغوط السياسية. هذا بالإضافة إلى أهمّية نشر ثقافة التسامُح والمصالحة بين مختلف مكوّنات المجتمع السوري.

ومن المهمّ أن تترافق هذه الجهود مع صياغة دستور جديد يعكس تطلّعات جميع السوريّين، ويُؤسّس لنظام سياسي تعدُّدي يحترم حقوق الأفراد والجماعات. يجب أن تكون العملية السياسية شاملة، بحيث تُتيح مشاركة كل الأطياف، من دون إقصاء أو تهميش.

تتمتّع سورية اليوم بحُرّية لا يُمكن إنكارها، تتبدّى في انتقادات مسؤولة وغير مسؤولة، قد تكون طائشة وغير متوازنة. بين الذين يريدون الخير لسورية، أو الرغبة في عودة البلاد إلى سابق عهدها، وإظهار المخاوف من عودة الخلافة الإسلامية السلفيّة، ولا يجدون الحرّية إلّا في ضمان حرّياتهم الشخصية. كما هناك عُتاة متشدّدو العلمانية الذين يكرهون المظاهر الإسلامية ويشترطون اختفاءها. ومهما كانت المبالغات في المطالب، يجب أن يقبل السوريون بعضهم بعضاً، ولا خيارات، إذا كانت الحرّية، فالحرّية تشمل الجميع، من دون استثناءات أو تفضيلات.

تتطلّب الديمقراطية الحقيقية قبول التنوّع. ففي أوروبا، نجد مساجد ومآذن ونساء مسلمات محجّبات، وهذا التنوّع موجود أيضاً في سورية. يجب أن يلتقي الإسلام السياسي الجماعاتِ الديمقراطيةَ والعلمانية واليسارية في الشارع اليوم، وفي البرلمان غداً. هذا ليس بالجديد؛ ففي البرلمان السوري التاريخي اجتمع رجالات من مختلف الاتجاهات: شكري القوتلي من “الحزب الوطني”، ومصطفى السباعي من “الإخوان المسلمين”، ومعروف الدواليبي من “حزب الشعب”، وخالد بكداش من “الحزب الشيوعي”، وصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني من “حزب البعث العربي الاشتراكي”.

سورية اليوم في حاجة إلى أن تكون نموذجاً للتعايش والتعدُّدية، حيث يُمكن أن يُسهم كلّ فرد في إعادة بنائها. إنّها لحظة تاريخية تحتاج إلى تضافر الجهود والعمل بروح المسؤولية الوطنية. المستقبل يعتمد على قرارات تُتّخذ اليوم، وعلى قدرة السوريّين على تجاوز خلافاتهم تليق بطموحات بنائِه وبمكانته المستقبلية في العالَم.

في الواقع، لن تكون سورية إلّا كما كانت: وطناً للجميع. إن لم تكن كذلك، فلن تكون أبداً.