لقد تابعت الروايات السورية الأحداث التي عاشتها سوريا منذ سنة 2011 من حراك شعبي وما تلاه من قمع وقتل وحروب وتهجير وصراعات بكل مكوناتها، تراجيديا متكاملة الأركان حاولت توثيقها الأعمال الروائية، وقد نجح الكثير منها في كشف الخفايا المفزعة وبالتالي تكوين صورة عما يحدث وأحيانا استشراف مآلاته.
حين سقط نظام بشار الأسد ونقلت القنوات والأخبار نبأ هروب بشار من البلاد في الثامن من شهر ديسمبر الجاري، وضع الروائي السوري فواز حداد غلاف روايته الأحدث “جمهورية الظلام” على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك وعلق بكلمة واحدة: سقوط “جمهورية الظلام”.
يتبدى لنا وكأن الأدب قد تجاوز دوره السردي ليصبح صورة للواقع السياسي. هذا الربط بين الأدب والحدث، بين الرواية وسقوط نظام الأسد، يضع العنوان في قلب نقاش أدبي حول تمثيل السلطة والطغيان في النصوص الأدبية وكيف تتحول الأعمال الروائية إلى مرآة تعكس التحولات الكبرى للمجتمعات.
الرواية والواقع
يعكس استدعاء رواية “جمهورية الظلام” (رياض الريس، بيروت، 2023) في لحظة انهيار نظام الأسد مدى توافق الرمزية الأدبية مع الواقع، وبخاصة أن الرواية لم تكن حكاية عن القمع داخل نظام متخيل، بل كانت تحليلا عميقا لجوهر السلطة التي تحولت من أداة لتحقيق العدالة إلى آلة لإنتاج الظلم وتعميم الظلام.
يتجلى هذا الربط بين الرواية والواقع من خلال التركيز على “الظلام” كمفهوم شامل في غياب النور الأخلاقي والسياسي والاجتماعي، وتحول الدولة إلى كيان يدمر أبناءه وذاته من خلال أدواته القمعية. ولا تكتفي الرواية بوصف الظلام، بل تتعمق في تفسير أسبابه وآلياته. وكما أن النظام في الرواية يعيش صراعات داخلية تُمهد لانهياره، فإن سقوطه التالي يأتي نتيجة طبيعية لاستمرار هذه الهيمنة الظلامية لزمن أطول من قدرتها على الصمود. يتطابق الواقع مع الرواية في نقطة أساسية: الظلام مهما طال لا يملك الاستمرارية، إذ يحمل في داخله بذور فنائه.
يحمل عنوان “جمهورية الظلام” ثِقلا رمزيا عميقا يُلقي بظلاله على تفاصيل النص كلها. “الجمهورية” التي يُفترض أن تكون رمزا للحرية والمساواة تتحول، في الرواية كما في الواقع، إلى كيان مضاد لقيمها الجوهرية، تُعيد إنتاج القهر والقمع بدلا من أن تُزيله. أما “الظلام” فيتجاوز حالة انعدام النور ليغدو استعارة لحالة فكرية وروحية، تعكس غياب العدالة، وطمس الحقيقة، وهيمنة الاستبداد. وهذا التزاوج بين “الجمهورية” و”الظلام” يكشف عن تناقض داخلي؛ إذ تُظهر الرواية كيف يتحول كيان الدولة إلى تنظيم يُديم الفوضى بدلا من تحقيق النظام.
يمتد العنوان إلى الواقع السياسي في سوريا، حيث نظام الأسد جسد، على مدار عقود، جمهورية تتسم بالظلامية في أسلوب حكمها وممارساتها. فالظلام هنا منظومة متكاملة تفرض العمى الجمعي على المجتمع. تجلى ذلك في الهيمنة الأمنية والقمع، والتزييف المعنوي والرمزي، والانهيار التراكمي.
كما في الرواية، يصبح العنف الممنهج أداة للحفاظ على النظام. أجهزة الأمن السورية، مثل “الفروع” في الرواية، تمثل الوجه المظلم للدولة، حيث تُمارس التعذيب والاضطهاد بشكل يومي. يخلق النظام سرديات موازية لطمس الحقيقة، تماما كما يُبرز العنوان طبيعة الظلام كآلية للتحكم في الأفراد والجماعات.
يتم استغلال الشعارات لتبرير الهيمنة، فتبدو الجمهورية وكأنها جمهورية للظلام وليست للنور. كما أن الظلام في الرواية يستهلك المنظومة من الداخل، فإن النظام السوري عاش صراعه الداخلي الذي أفضى إلى انهياره. فساد الأجهزة، وتحول القائد وحاشيته إلى رموز لثقافة التسلط والانتفاع، هو في حد ذاته “ظلام” هدم قواعد الدولة ودمر بنيتها.
إذا كانت “جمهورية الظلام” تصور لنا قسوة منظومة تعيش على سحق الآخر، فإن ارتباطها بسقوط نظام الأسد يُحيلنا إلى سؤال أبعد: كيف يمكن لهذا الظلام أن يُبدد بعد السقوط المدوي للنظام؟ الرواية، وإن كانت لا تقدم جوابا، تلمح إلى أن الظلام مهما طال يبقى هشا أمام النور. وسقوط نظام الأسد هو لحظة كشف للحقيقة، حيث لا يمكن للأوهام التي صنعها “الظلام” أن تصمد أمام قوة التغيير.
يشير سقوط نظام الأسد إلى انفجار “الظلام” من داخله. تماما كما في الرواية، حيث تصبح المنظومة الأمنية أداة للخراب بدلا من الحماية، فإن النظام السوري، بآلياته القمعية، يتحول إلى عبء على نفسه. يُبرز العنوان أن سقوط هذا النظام لن يكون نتيجة قوة خارجية، بل نتيجة استحالة استمرار هيمنة الظلام بلا انقطاع، وكيف أن الظلام، حين يطول، يخلق أسباب انهياره، ويغدو أجوفَ لا يستطيع الصمود أمام أي ثورة.
الرواية تفتح الباب أمام أسئلة أبعد، إذ أن الخروج من جمهورية الظلام ليس إسقاطَا لنظام فحسب، بل هو تحرر من الفكر الذي يجعل الظلام ممكنا، حيث ثقافة الخوف، وعبادة الفرد، والقمع المتجذر في البنية المجتمعية. وكما في الرواية، يبقى التحول الحقيقي رهنا بقدرة المجتمع على بناء بدائل حقيقية، بدائل تنزع جذور الظلام من الفكر والروح قبل أن تنزعها من النظام السياسي.
مرايا الصراع الإنساني
عمل أدبي يُذكرنا بأن التغيير الحقيقي يبدأ من مواجهة الأسئلة الأكثر صعوبة: ماذا يعني أن نكون أحرارا؟
الشخصيات في الرواية نقاط ارتكاز فلسفية تعبر عن جدلية الخير والشر، الحرية والقمع، الفرد والجماعة. من سامر الممزق داخليا، إلى ف.ح الغامض، إلى المعتقلين الذين يمثلون صوت المعاناة الجماعية، إلى النظام الأمني الذي يفرض سطوته بلا هوادة، تشكل الرواية رحلة عميقة داخل النفس البشرية وهي تواجه أقسى صور القهر والظلم.
المحقق سامر، الإنسان الممزق بين الضمير والواجب، يمثل نموذجا فلسفيا معقدا للإنسان المأسور بين الأخلاق والضرورات العملية. في بيئة قمعية تحكمها الضرورات الأمنية، يجد نفسه عالقا في صراع داخلي: بين ضمير يهمس له برفض الظلم ومحاولة التخفيف من وطأته، وبين واجب مهني قسري يفرض عليه أن يكون جزءا من آلة القمع.
سامر استعارة حية لحالة التمزق التي يعاني منها الأفراد في الأنظمة الاستبدادية. إن اختياره التخفيف عن المعتقلين لا ينفي دوره كمحقق يتبع تعليمات النظام، لكنه يكشف عن هشاشة الذات الإنسانية حين تُجبر على التعايش مع ما ترفضه أخلاقيا. سامر، في عمقه الفلسفي، يمثل الصراع بين الوعي الذاتي والرغبة في النجاة. فهو يدرك أن محاولاته للتخفيف عن المعتقلين هي محاولات لإبقاء ذاته الأخلاقية على قيد الحياة، لكنها أيضا خيانة ضمنية للذات تلك لأنها تُبقيه داخل المنظومة نفسها.
سامر هو مرآة لصراع أعمق يعانيه الإنسان في مواجهة أنظمة تُجبره على التكيف مع الظلم ليحافظ على وجوده، لكن هذا الوجود يتحول تدريجيا إلى عبء نفسي ومعنوي لا يُحتمل.
المحقق المختص ف.ح أو “فاعل خير” يبرز كشخصية غامضة تربك القارئ وتسائل المنظومة الأخلاقية بأسرها. في منظومة قمعية بطبيعتها، حيث الخير يُعد استثناء، يظهر ف.ح كمفارقة تُبرز جدلية الخير والشر في أكثر صورها تعقيدا.
ف.ح يقدم نفسه كعنصر “إنقاذ” داخل منظومة الظلام، وهو ما يثير تساؤلات كثيرة: هل يمكن للخير أن يوجد داخل الشر؟ هل يُمكن للإنسان أن يُحدث تغييرا من داخل المنظومة دون أن يُصبح جزءا منها؟ تناقضات ف.ح تكشف عن الطبيعة الرمادية للوجود الإنساني. إنه محقق في نظام قمعي، لكن أفعاله تصب في محاولات إنقاذ المعتقلين. هذا الدور لا يجعل منه بطلا بقدر ما يطرحه كحالة فلسفية عن الأفعال والغايات.
في “جمهورية الظلام” يتحول النظام الأمني من سياق خلفي إلى شخصية معنوية تتمتع بحضور قوي ولكنه غير مرئي
ف.ح بدوره استعارة للإنسان الذي يرفض أن يكون سجينا لثنائية الأبيض والأسود. وجوده يطرح أسئلة عن إمكانية زرع بذور الخير داخل بنية شريرة بطبيعتها، وعما إذا كان هذا الخير حقيقيا أم مجرد تمويه مؤقت يُبقي النظام الشرير مستمرا.
المعتقلون في “جمهورية الظلام” تجسيد لجسد جماعي يمثل هشاشة الإنسان أمام القمع، وهم مرايا تعكس معاناة مجتمع بأكمله، حيث يصبح الألم أداة لترويض الروح، والقهر وسيلة لتهشيم الأمل.
تمنح الرواية المعتقلين أبعادا متجددة، حيث يتحولون من كونهم ضحايا صامتين إلى رموز تعبر عن الصراع الأبدي بين الحرية والقمع. كل معتقل هو قصة بحد ذاتها، لكنه أيضا جزء من سردية أكبر تشير إلى مجتمع بأسره يعاني من القهر الممنهج. هؤلاء المعتقلون يسلطون الضوء على السؤال الأهم: إلى أي مدى يمكن للنفس البشرية أن تتحمل القهر قبل أن تنهار؟ هل يمكن للأمل أن ينجو وسط منظومة تسعى لتدميره؟ الرواية لا تجيب بشكل مباشر، لكنها تجعل من المعتقلين شواهد حية على صراع الإنسان ضد فقدان ذاته.
في “جمهورية الظلام” يتحول النظام الأمني من كونه سياقا خلفيا إلى شخصية معنوية تتمتع بحضور قوي ولكنه غير مرئي. تنظيم “النظام” آلة ضخمة تبتلع كل من يدخلها، بما في ذلك أجهزتها البشرية، يمارس القمع، ليس فقط على ضحاياه من المعتقلين، بل أيضا على أدواته البشرية من المحققين والضباط.
النظام الأمني في الرواية يتجسد ككيان لامرئي يدير الظلام ويعيد إنتاجه. إنه “عقل مدبر” بلا هوية فردية، يفرض قوانينه من دون أن يتحمل أي مسؤولية. كل شخصية داخله، من المحققين إلى المعتقلين، تصبح ضحية له بشكل أو بآخر. حتى المحقق سامر وف.ح يُسحقان تحت وطأة هذا النظام الذي لا يسمح لأحد بالخروج عنه من دون أن يدفع ثمنا باهظا.
تعكس رواية “جمهورية الظلام” رؤية فلسفية معقدة تتحدى التصورات التقليدية للخير والشر. لا تقدم الرواية إجابة واضحة حول هذه الثنائية، بل تراها تبرز التداخل بينهما في سياق قمعي يجعل من كل فعل، مهما بدا نبيلا، جزءا من لعبة السلطة.
الربط بين الرواية والواقع يتجلى عبر التركيز على “الظلام” كمفهوم شامل في غياب النور الأخلاقي والسياسي والاجتماعي
تظهر هذه الثنائية كصراع داخلي للشخصيات وكواقع خارجي يفرض نفسه. الخير والشر في الرواية ليسا قيمتين منفصلتين، بل حالتان متداخلتان تصطدمان بالضرورة العملية للبقاء داخل نظام يقتات على الفساد والقمع.
والقمع في الرواية ليس سلوكا عشوائيا للنظام، بل هو آلية منهجية تُعيد تشكيل الأفراد ليصبحوا أدوات في خدمة السلطة. الجسد الإنساني، في هذا السياق، يتحول إلى مسرح للصراع بين القمع والمقاومة. الجسد، سواء كان جسد المحقق أو المعتقل، يُستغل ويُستهلك لتحقيق أهداف النظام.
النظام هنا يظهر كهيكل غير إنساني، يقتات على الألم الجماعي للحفاظ على بقائه. يفرغ الأفراد من خصوصياتهم ويعيد تشكيلهم كأدوات طيعة، سواء كانوا جلادين أو ضحايا. هذا التحول يكشف عن وجه آخر للقمع، حيث لا يُدمر الضحية فقط بل أيضا الجلاد الذي يصبح بدوره مسجونا داخل المنظومة. والقمع، كما يظهر في الرواية، قوة تدميرية تحمل بذور فنائها داخلها.
تُظهر الرواية الضمير كعنصر مرن، لكنه عاجز عن إحداث تغيير حقيقي داخل بنية قمعية. سامر، بشعوره بالذنب ومحاولاته التخفيف عن المعتقلين، يُظهر ضميرا يعاني تحت وطأة الضرورة. لكنه في الوقت نفسه يساهم في إطالة عمر النظام من خلال استمراره في العمل داخله، وهو يمثل الضمير الذي يُستخدم لتجميل القبح، لكنه يظل شاهدا على الظلم. الرواية تلمح إلى أن الضمير في هذه البيئة وسيلة لإدامة القمع عبر توفير وهم إنسانيته.
والعنف لا يقتصر على الاعتداءات الجسدية. إنه إرهاب شامل يمتد إلى الروح والعقل. النظام القمعي يُحول الكلمة والموقف إلى مصدر خطر، ما يجعل الصمت ذاته موقفا قد يُعاقب عليه. والإرهاب النفسي الذي يمارسه النظام لا يُدمر الفرد وحسب، بل يُفرغ المجتمع من القدرة على المقاومة. المعتقلون يُجردون من إنسانيتهم، بينما يُجبر الجلادون على المشاركة في دورة العنف التي تفقدهم هويتهم. والعنف النفسي الذي يتغلغل في الروح يترك جروحا لا تُشفى، ويجعل من المجتمع بأسره ضحية دائمة حتى بعد سقوط النظام.
يقدم فواز حداد في روايته دراسة فلسفية للصراع الإنساني في أكثر صوره تعقيدا، يظهر العنف كمنظومة فكرية واجتماعية تدمر الإنسان في مستوياته كافة، ولا يسعى لتقديم إجابات بقدر ما يثير أسئلة حول طبيعة الخير والشر، القمع والحرية، والقدرة على المقاومة في ظل ظروف لا تترك مجالا للاختيار، وهو من خلال ذلك يقدم شهادة على هشاشة الإنسان في مواجهة أنظمة تُجرده من ذاته، وهو في الوقت نفسه يصور القدرة الدائمة على التساؤل والتحدي، حتى وإن كان بصمت.
تراجيديا متكاملة
كيف نحافظ على إنسانيتنا وسط القهر (لوحة للفنان تمام عزام)
كيف نحافظ على إنسانيتنا وسط القهر (لوحة للفنان تمام عزام)
تسير الرواية بخط تصاعدي متماسك كتراجيديا متكاملة، حيث تبدأ بوصف البيئة القمعية التي تُحاصر الجميع، ثم تتطور إلى الكشف عن التوترات الداخلية لكل شخصية. هذه البنية التصاعدية تعكس حالة من التدهور المستمر، ليس فقط للنظام القمعي، ولكن أيضا لضحاياه وأدواته. ويتجلى هذا التناغم في تصاعد العنف الذي يتزامن مع تصاعد التشكيك في جدوى الحياة داخل هذا النظام.
تمثل لغة السرد في الرواية أحد أعمدة قوتها الأساسية، حيث تُقدم مزيجا دقيقا بين الواقعية الباردة والعاطفة المكبوتة. الكاتب يستخدم لغة دقيقة عندما يتناول مشاهد التحقيق أو وصف النظام الأمني، ما يعكس برود الآلة القمعية وعدم اكتراثها بالإنسان. وتراه يبرز من خلالها كيف يتحول الإنسان إلى مجرد رقم أو حالة ضمن منظومة تُجرده من هويته.
وعلى الجانب الآخر تظهر العاطفة المكبوتة بوضوح في وصف معاناة المعتقلين، حيث يتحول السرد إلى أداة لإيصال الألم النفسي والجسدي الذي يعيشونه.
تتميز الرواية بطابعها الرمزي العميق، حيث تحمل كل شخصية وكل حدث دلالات تتجاوز حدود السرد الظاهري. المعتقلون ليسوا مجرد أفراد يعانون من الظلم، بل هم رموز لواقع جماعي مضطهد، يعكس حالة من الانكسار الشامل للمجتمع بأسره. كل معتقل يُمثل فئة أو شريحة من المجتمع السوري، حيث تتحول معاناته الفردية إلى شهادة على القمع الممنهج.
الأحداث نفسها تحمل دلالات رمزية تتجاوز الإطار الروائي. كل فعل عنف، كل كلمة تُقال في غرف التحقيق، كل صرخة صامتة من المعتقلين، تتحول إلى استعارة للصراع بين الحرية والقمع. والرواية بذلك تغدو وثيقة أدبية تُبرز أبعادا فلسفية واجتماعية أوسع، تجعل من الحرية مفهوما مؤجلا، حيث تتحول إلى فكرة بعيدة المنال في ظل نظام يُحكم قبضته على كل شيء. والعدالة، بدورها، تُطرح كفكرة مستحيلة في بيئة تُدار بالظلم. الرواية تُظهر أن النظام القمعي لا يقتصر على منع العدالة، بل يُعيد تعريفها لصالح بقائه.
تدعو الرواية إلى مواجهة الظلام الذي لا ينبع من الأنظمة القمعية فقط، بل أيضا من هشاشة الذات الإنسانية أمام هذه الأنظمة. وهي في الوقت ذاته تفتح نافذة أمل، حيث تلمح إلى أن الظلام مهما طال سيتبدد. وبهذا، تظل عملا أدبيا يُذكرنا بأن التغيير الحقيقي يبدأ من مواجهة الأسئلة الأكثر صعوبة: ماذا يعني أن نكون أحرارا؟ وكيف نحافظ على إنسانيتنا وسط ظلال القهر؟
في المقطع الأخير من رواية “جمهورية الظلام” تتجلى ذروة الطرح الفلسفي الذي تنسجه الرواية منذ البداية، وهو ينهي الرواية بسؤال مفتوح لا إجابة واضحة له: هل يمكن أن يُنسى هذا الظلام، حيث يقول: “إن ظننت ما يجري يمت إلى الخيال، فماذا عن الحرب، والرئاسة والإدارة، ولا تنسَ الفرع 650، وصاحبك المقدم، والمخابرات والمخبرين ومستشفيات الانتقام وزبانية التعذيب والإعدامات وقطع الرؤوس وملايين الضحايا والشهداء والنازحين والمهجرين وآلاف المعتقلين والمفقودين؟ إذا اعتقدت أنك تتوهمها، فهل كان كل هذا الموت والدمار متخيلا؟”
كأن الكاتب يتحدث مباشرة إلى القارئ، يكسر الجدار بين النص والواقع، تتلاشى الحدود بين الحقيقة والخيال، ليصبح النص شهادة على واقع أشد قسوة من الخيال نفسه، حيث يتداخل الخيال مع الحقيقة ليبرز أن الظلم الذي نقرأ عنه في النص ما هو إلا انعكاس لما يحدث فعلا في العالم، وأن الحقيقة قد تكون أكثر قسوة من الخيال.
-
المصدر :
- العرب