كان المفروغ منه الاعتراف بعبقرية بيتهوفن وباخ وموزار… والقائمة طويلة، لكن لُوحظ تجاهُل اسم الموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر على الرغم من مكانته من بعض الألبومات، حتى تلك التي تحتوي على مئة من روائع المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين.

بات سبب ما يشبه المنع لدى بعض الأوساط معروفاً، وهو أنّ فاغنر كان معادياً للسامية، وأنّه وسّع معاداة اليهود المنتشرة في عصره لتنسحب على مجالات الثقافة، خصوصاً الموسيقى، لدرجة تحويل مهرجان “بايرويت” الشهير للموسيقى، الذي أسّسه فاغنر، إلى مكان يُقصي اليهود، إلى حدّ بات مجمعاً للأفكار العنصرية، حتى ارتبط في أذهان الكثيرين بالنازية، خاصّةً أنّ هتلر كان شديد الإعجاب به.

لم يكن فاغنر هو الذي خلق الكراهية لليهود. كان المناخ البغيض السائد في أغلب بلدان أوروبا. من جانب آخر، هل يُبرّر استماع هتلر لموسيقاه اتّهامه بالنازية، وإسقاطه من تاريخ الفن؟ ماذا عمّا أضافه، وقوّة تأثيره في عالم الموسيقى؟ عموماً نجا فاغنر من محاولات إلغائه كلّياً، وشفعت عبقريته بالتغاضي عن آرائه العنصرية. غير أنّ الأمور لم تتوقّف عند هذا الأمر، فمحاكمته لا تفتر عن الانعقاد بين حين وآخر، بما يشبه محاكم التفتيش.

يحاول كلّ عصر فرض قيمه، لكنّ بدعة المراجعات الجديدة أنّها تأتي بأثر رجعي

تستدعي هذه الادعاءات، زمن انعكاس الرؤى الستالينية في كتابات العديد من رموز اليسار العربي، أبرزها كتاب “في الثقافة المصرية” لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، وسار على منواله كتاب “الأدب والأيديولوجيا في سوريا” لنبيل سليمان وبوعلي ياسين، تقيّد كلا الكتابين بمفاهيم الواقعية الاشتراكية، وكان فيها اختزالٌ للأدب إلى صراع طبقات، فاعتُبر نجيب محفوظ روائيَّ البرجوازية الصغيرة، لا يمثّل أدبُه الجماهير الكادحة، وتغصّ رواياته بأقوال ومفاهيم لا تقلّ عن الوعظ الديني. وطاولت الانتقادات أيضاً الرؤى الأخلاقية عند التطرّق لأدب إحسان عبد القدوس، باختياره أبطالاً لرواياته وقصصه لا يمثّلون الشعب المصري، في طريق الانحلال الأخلاقي والتعفّن النفسي وتدهور الضمير، ما أدى إلى طرح تساؤل أخلاقي: “لماذا كانت الدعارة وبيع الأجساد موضوعاً عامّاً في إنتاجه الأدبي؟” بينما هناك مصر أُخرى تستحقّ أن يختار الكاتب منها أبطاله.

أمّا في سورية، فقد جرى تصنيف الأدباء بحسب التعاليم الجدانوفية إلى برجوازي وعشائري… وهلمّ جرّاً، طاولت عبد السلام العجيلي وزكريا تامر وشكيب الجابري وغيرهم.

كانت الاتهامات تُكال تبعاً للثقافة المهيمنة، من خلال إطلاق الأحكام السلبية على أعمال الأدباء والفنّانين، كما حصل للكثير من الأعمال الطليعية التي أثارت غضب بعض النقّاد، فانتُقدت الأعمال الطليعية لجويس وبيكيت وبروست وبيكاسو، وإذا كانت قد انصبّت على شيء، فعلى تقييد حريّة الأديب والفنّان في التعبير عن رؤاه الفنّية. كما صودرت الأعمال الأدبية للنرويجي كنوت هامسن والفرنسي لويس فرديناند سيلين وكادا أن يُعدما، لاتهامهما بالتعاون مع النازيّين.

تمثّلت اليوم الدعوات الجديدة تحت عنوان “الصحوة الضميرية” بالدعوة إلى حصول الفئات المضطهدة والمهمّشة: النساء، الأعراق المضطهدة، المثليون وغيرهم، على حقوق مساوية، قانونياً واجتماعياً، ما يُسهم في إحداث تغيير اجتماعي وتربوي، ويعمل على تصحيح الحيف التاريخي الذي لحق بها بسبب انتماءاتها أو توجّهاتها السياسية أو ميولاتها الجنسية.

طبعاً، يحاول كلُّ عصر فرض قيمه، لكن البدعة الجديدة أنّها كانت بأثر رجعي، كما حصل مع فاغنر، باتهامه بالنازية قبل ظهور النازية نفسها. وشملت مختلف أنواع الفنون والآداب، فنالت من كبار أدباء القرون الماضية، شكسبير كان واحداً منهم، فاتُّهم بالعنصرية ومعاداة السامية، والمستغرب أنّه كان وراءها باحثون أكاديميون في الجامعات.

إنّ الخطر من ادعاءات كهذه ودعوات اعتبار رؤية الكاتب أو الفنّان ليست مدخلاً لفهم أدبه، وإنما ما قاله أو ما طرحه من آراء سياسية، ما يُشكّل حُكماً مسبقاً على قيمة فنّه.