لم تكن هناك أدنى مبالغة في هرولة بعض الأنظمة العربية للتطبيع مع الأسد، ولولا أن فحوى الهمهمة الأميركية، كان إعلانا عن عدم الرضا، لكان التطبيع قد أخذ مجراه، وشهدنا الاحتفالات والمهرجانات بعودة سوريا إلى الصف العربي، ومنه إلى الجامعة العربية، ومنه إلى قيادة البلدان العربية.

ما السبب في تراجع الأميركيين عن السماح بالضوء الأخضر، والاستعاضة عنه بالأحمر؟ لن ندخل في تخمينات، الأميركيون كما الروس والكثير من الدول لا تمنح بلا مقابل، لكن النظام ليس لديه ما يعطيه أكثر من الرضوخ، وإنما الدول المهرولة يجب أن تقدم شيئا بالمقابل للأميركيين، وكل دولة على حدة. فالسياسة لا تعمل بالهبات، إنها تجارة رابحة، أو تسعى ألا تكون خاسرة. هكذا كانت، وإن أصبحت أكثر قذارة في هذه الأيام السيئة، لكن الشعب السوري ليس بالحسبان، وإن كان التطبيع سيرتد عليه بتمديد مأساته، فاستقرار النظام بأمان يعني استقرار السجون والمعتقلات والاعتقالات وتمدد النهب، وانتهاء المفاوضات مع ما يدعى المعارضة، مع أنها ليست مفاوضات ولا ما يشبهها.

التطبيع لا يهم سوى الحكومات التي تريد أن تُفقد شعوبها الأمل بأي تغيير عن طريق الشارع

أما وقف التطبيع، فيعني أن النظام ما زال مهددًا، لم يقفز بعد إلى مرحلة الاطمئنان على مصيره، بالتالي عودته الميمونة إلى العالم مؤجلة إلى إشعار آخر، وريثما يحصل ما يذكرهم به بافتعال بعض القلاقل والمساومة عليه، كقصة الكبتاجون ولو كانت نصيحة من الحليف الإيراني، بعدما كانت مستورة أصبحت علنية وإلى ازدياد. التطبيع لا يهم سوى الحكومات التي تريد أن تُفقد شعوبها الأمل بأي تغيير عن طريق الشارع. على كل حال، الشعب السوري خارج الموضوع، وإن ما زال أنموذجا صالحا للعبرة.

التساؤل حول هذه الهرولة، تجلب التساؤل من فرط المسارعة واللهفة والحماسة التي صاحبتها. أولًا، لا ننسى العامل النفسي، كان سقوط النظام السوري يعني أن الربيع العربي حقق انتصارا في قلب العروبة النابض كما كان يُدعى، وربما استعاد هذا اللقب المؤرق، الذي لم يفلح سابقا إلا في الضجيج، مع هذا كاد أن يُدخل العالم العربي في ذلك الوقت في متاهة الثورات والاشتراكية وتأجج المشاعر القومية، صحيح أنها أخفقت كلها، لكن قد تستعيد بأسها في الربيع. ما يستجر على الأقل إلى استبدال طاقم من الحكومات بطاقم آخر إرضاء للمتظاهرين.

يبقى العامل النفسي مؤثرا، فاستمرارية النظام السوري توحي بأن كل شيء عاد إلى ما كان عليه، ما يعني أن الأنظمة الأخرى ستكون في وضع مريح بعيدا عن الانتقادات مهما فعلت، ما دام هناك نظام قتل ودمر وشرد نصف شعبه، ولم يطاوله عقاب ولا تأنيب، الفيتو الروسي كان بالمرصاد، وروسيا دخلت إلى المنطقة، لماذا ندعها تخرج؟ وفي حال قُدمت إليها المحفزات فسوف تبقى، تحمي هذه الأنظمة.

عدا أن وجود النظام السوري يمنحهم البراءة، لأنه نظام سيئ جدا، أسوأ منهم، بشكل لا يمكن مقارنتهم به، فبينما يشكون من فساد هم المسؤولون عنه، يغتفر مع الوقت، أو يعتادون عليه، لكن النظام السوري لم يترك جريمة لم يرتكبها، بحيث إن الفساد أقلها شأنا. ومع أن العامل النفسي مهم، يشكل دافعا ذاتيا لمماحكة الأميركيين، فشعوبهم أيضًا قد تثور، ويقع البلد في أحضان الدب الروسي.

على كل حال، لا ينبغي إهمال العوامل الأخرى، فهي الركائز الكبرى التي ستشكل النموذج القادم للمنطقة، فسوريا ستكون سابقة تؤخذ بعين الاعتبار، من ناحية تجديد الاعتراف بها دوليا، وبالتالي يعترف معها بأن بلدان المنطقة عصية على الإصلاح، والأحرى استحالة الديمقراطية، حتى الثورات أخفقت فيها، وكانت دموية، بينما في أوروبا كانت ملونة، أي أن الشعوب المتحضرة تعرف كيف تثور. فالعالم يتقدم، بينما التخلف يزداد تخلفا.

لن يكون الحل إلا باعتماد الطريق السوري، لكن كي تدير أميركا ظهرها للمنطقة وتترك حكوماتها تدبر أمورها

من هذه الناحية يستحسن ترك المنطقة لشأنها أي للحكومات، السر لدى حكامها، إنهم الأعلم بشعوبهم الجاهلة، والأفضل الكف عن تسليط منظمات حقوق الإنسان عليهم، وإطلاق أيديهم في بلدانهم، وكما ظهر في سوريا، لم يكن سوى القوة خيارا لقمع الفوضى. ما يؤكد أن حكم المخابرات هو الأنجع، هذه شعوب لا تفهم إلا بالضرب. ما يستفاد من الأزمة السورية هو أن الحكومات باقية ومستمرة ولو بلا كهرباء وخبز ووقود، مع غلاء وفاقة. في الحقيقة لا يفهم الشعب إلا بهذا الأسلوب، بات مجربا، العقاب على المدى الطويل، الحصار والتجويع والتركيع. وفي الواقع، الحكومات لا تتضرر، فالنظام السوري استطاع الانتصار، وإن بلغت التكلفة ٥٠٠ مليار دولار، هل تأثر النظام؟ لا.

ماذا عن باقي بلدان المنطقة؟ لن يكون الحل إلا باعتماد الطريق السوري، لكن كي تدير أميركا ظهرها للمنطقة وتترك حكوماتها تدبر أمورها، لا بد من دفع الثمن، فأميركا تدرك أن إسقاط اعتراضاتها على عودة النظام إلى العالم، يعني اكتساب الشرعية، أي مكافأته بالصمت عن جرائمه، وتمديدها إلى المستقبل، بما يسقطها عن بلدان المنطقة كلها، أي أنهم لم يهرولوا عبثا، كذلك لا تنسوا الروس، وربما إيران، إنهم مع هذا الحل، ما يضمن وجودهم كحراس للدكتاتوريات.

الاستفراد بالشعوب مكلف، يجب أن تدفع أثمانه حكومات المنطقة، وفي الواقع لن تدفع إلا الشعوب.