في الأعوام القليلة الماضية، شهدت حركة النشر إصدار عشرات الكتب عن المكتبة والقراءة، تجاوزت المئة، وشكّلت رصيداً جيّداً إلى جانب ترجمة الروايات التي أصبحت بالآلاف. بدا وكأنّ الكتب والمكتبات قد شجّعت على القراءة، وظفرت بحظّ كبير وأصبحت ظاهرةً محلّ تنافُس، وتشفي القرّاء من شرور الفراغ، وتنقلهم دفعةً واحدة إلى عالم من المعرفة والأفكار، ما يُؤثّر في حياتهم والحياة بشكل عامّ.
المشكلة أنَّ القراءة ذات السمعة الحسنة ليست مفيدةً دائماً، ربما كان خطرها يفوق أضعافاً مضاعَفةً محاسنها التي ترتدّ على الفرد نفسه. أمّا أضرارُها فتعمّ الشعوب والأمم، وتتجلّى بقُدرتها على سفك الدماء، وما تشيّده من سجون، وما تُعلّقه من مشانق. ولئلّا يكون كلامنا من الهواء، ويتبدّد في الهواء، لا يجب أن نبدو وكأنّنا نتكلّم بالألغاز، إنّه الواقع البشع، البرهنة عليه ليست عسيرة، وذلك بالالتفات إلى الخلف، أو الاكتفاء بالنظر إلى ما حولنا، لنظفر بالدليل القاطع.
في الحقيقة، لا أتذكّر المقال الذي نبّهني إلى مشكلة القراءة، ومن فرط ما كان التنبيه ثاقباً ولافتاً، رغم طرافته، احتفظتُ به في ذاكرتي. وحسب صاحب المقال، لو أنّ والدةَ ستالين لم تُرسِل ابنها إلى المدرسة لما تعلّم القراءة والكتابة، وهو احتمالٌ وارد، فقد كان والدُه صانع أحذية، وأمُّه عاملة نظافة، أرسلته بعدما تجاوز العاشرة من عمره إلى المدرسة الروسية الأرثوذكسية اللاهوتية في تفليس بهدف أن يصبح كاهناً. لم يُصبح كاهناً، أصبح طاغية. لولا القراءة، لكان من الممكن أن يكون مُدمناً على الخمر مثل أبيه، ورجُل عصابات يعمل في الممنوعات، لكنّ الكتب، قادته ليقرأ ماركس وإنجلز، وكتب عدّةَ كرّاسات عن أدبيات الشيوعية.
هذا بخصوص ستالين. وإذا عرَّجنا على هتلر، فلا أدري ما الذي قرأه، ما أعرفه أنّه لولا قراءاته لما استطاع تأليف كتابه الشهير “كفاحي”. طبعاً، جعلته القراءة يُصدّر نظرياته عن تفوّق العرق الآري، فقاد الشعب الألماني وراءه إلى حرب ضدّ العالم. اجتمع في القرن الماضي ستالين وهتلر، القرن الأكثر فظاعة في تاريخ البشرية، ترافقت عداوتهما في زمن واحد ليرتكبا أكبر مجزرة في تاريخ العالم كلّفت أربعين مليون مدني وعشرين مليون جندي، عدا الدمار الذي طاول دول أوروبا.
البشرية بحاجة لإعادة تأهيل ما دامت الانتخابات تمنح المجرمين السلطة
طبعاً، نحن لا نشاطر هذه الفكرة. نعرف أنّ القراءة قد قدّمت للعالَم أعظم الفلاسفة والمفكّرين والأدباء والفنّانين، وجعلوا وجودنا ذا معنى، والعالَم أكثر حضارة وإنسانية، وهؤلاء بالضبط الذين وقفوا ضدّ شرور الحروب والظلم والظلام، وحاولوا جهدهم ليكون العالم أفضل، وأثبتوا أنّ العقل بوسعه صنع شيء يُدعى السلام.
إذاً، وجدَت فكرة هجاء القراءة صدىً لدي، ولا أجد حرجاً في الاعتراف بها، فلأنّه بمرمى البصر سنعثر على ما يؤيّدها، فالذين حكموا العالم، ويحكمونه الآن، والمرشّحون لحُكمه في المستقبل، ليسوا إلّا هؤلاء الذين نصادفهم صباحاً ومساءً في وسائل الإعلام، مثل الأميركي بايدن، كذلك ترامب، والروسي بوتين، والكوري الشمالي كيم جونغ أون، والأسدان السوريان الأب والابن، والإسرائيلي نتنياهو ومعه بن غفير وسموتريتش والقائمة تطول.
وإذا توقّفنا هنا، فلأنه يصعب حصرهم رؤساء وزعماء وقادة وسياسيّين، هذا ولم نتطرّق للأحزاب العنصرية في أوروبا. هؤلاء هم الذين يعدّون أنفسهم للتحكّم بمصائر البشر. ما الذي يرتكبونه، أو سيرتكبونه سوى الجرائم؟ كأنهم عصابة من الخارجين عن القانون، والأصحّ مجرمون، يلبسون ملابس أنيقة يبتسمون للكاميرات، يقتلون الصحافيّين ويسمّمون المعارضين، ويزجّون بلدانهم في الحروب، من أين جاؤوا؟
جاؤوا من المدارس والجامعات والسياسة والكلّيات الحربية… أي من القراءة والكتب. لم يأتوا من مزارع الحشيش، ولا من الجريمة المنظّمة، ولا من دور الأيتام، أو بؤر تعليم النشل والنصب، ولا من الإصلاحيات. هل الذين انتخبوهم مجانين؟ يبدو أنّ البشرية بحاجة لإعادة تأهيل، ما دامت صناديق الانتخابات تمنح المجرمين السلطة، أمّا الذين جاؤوا من الانقلابات، فبقوّة الدبّابات، ويطمعون أن تُكرّسهم الانتخابات المزوَّرة إلى الأبد.
-
المصدر :
- العربي الجديد