رواية فوّاز حدّاد الأخيرة “جمهورية الظلام” عملٌ يُضاف إلى أعمالٍ يأخذ فيها الروائي السوري (1947)، على عاتقه فهمَ العنف المستطير الذي شهده بلده، وهو عنف في النصّ، كما في الواقع، مرتبط بآلياتٍ مُعقّدة شائكة. يعرض حدّاد أيضاً وجهة نظره عن مآل الحكاية السورية كلّها في رواية أرادها أن تنتمي إلى المخيّلة، إلّا أنَّ ما يجمعها بالواقع ينفي عنها التخييل بالقدر الذي افترضه الكاتب. إنّها حكاية سورية إذاً، على الرغم من قسوتها، بل إنّها بقسوتها وخروجها عن المعقول صارت حكاية سورية.

يتوافد على هذه الحكاية مُخبرون وأبطال، مثقّفون وكَتبَة، أصحاب ضمائر حرّة وحُثالة، يتوافد لصوص وضبّاط شرفاء. إنّها بانوراما شاملة أسوةً بروايات فوّاز حدّاد الشهيرة، إذ تجمع في صفحاتها شخصيات من مشارب عدّة وعقائد مختلفة؛ يضعها الروائي في سردية تُفكّك القتل. والروائي بهذا، يستخدم الشخصيات كي يفسّر القتل. وكثيراً ما دفع رواياته في هذا المسلك الحادّ، الذي كلُّ مساراته على الحافّة الخطرة للحقائق التي يعرفها السوريّون لكنّهم لا يقولونها بالوضوح الذي لديه. في “جمهورية الظلام” يُعيد الروائي سيرة الاستباحة إلى السِياق الذي صنعته الشمولية، لا الطوائف التي تظهر مجرّد أدوات لتجييش البشر، ولحشد قوى الناس بعضها ضدّ بعض.

يصنع هذا الاعتقاد لدى القارئ تلك الشبكة التي زرعها حدّاد وسط الجمهورية، بالمعنى الإجرائي للكلمة، أي أنّه زرع شبكة من الشخصيات النبيلة في المستشفيات وفي الأفرع الأمنية وفي الصحافة والجيش، وتلك الشبكة من الشخصيات متعدّدة الانتماءات، كانت تُعاند شبكةً أقوى منها، شبكةً تُحاربها وتتآمر عليها. إلا أنّ الغلبة، كما تذهب الرواية، لأولئك الأشخاص الأخلاقيّين، الإنسانيّين الذين يحاولون جهدهم لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه من بلد فُتِّتت أرضه، وهُجّر أهلُه، وشملهم القتل جميعاً. إنّها لعبة روائية، ترمي إلى لعبة أكثر قسوةً، هي لعبة الموت السوري.

ما يبدأ مزحةً ينتهي إلى تراجيديا في لعبة الموت السوري

المفارقة التي يعرضها نصّ فوّاز حدّاد جاءت في البنية التي اعتمدها، في تطوّر الحبكة، وفي الأسلوب الذي نقل مُمكنات الحكاية من موقف ساخر صنعَه الخلاف بين المخابرات واتحاد الكتّاب عمّن يملك السلطة على الضمير وعلى رقابة الفكر، ومواقف ساخرة غيرها؛ نقلها حدّاد على امتداد 480 صفحة لتصير مواقف دامية مريرة تضغط على القارئ بصلافة واضطراد. وما بدأ مثل المزحة، انتهى لأن يكون تراجيديا محقّقة في جمهورية الظلام.

العنوان دلالة على جملة من الأمور لا تقتصر على التعذيب، وإنما تشمل انعدام المصير الفردي، إنّها عن أفرادٍ مصيرهم يُعتِم في اللحظة التي يفكّرون فيها بالخروج عن الدور المُكلّفين به. هنا، لا الانتماء الطائفي يحمي الشخصيات، ولا الرتبة العسكرية تحميهم، ولا الولاء، وإنّما الشخصيات محميّة فقط بالدور الوظيفي المُحدّد الذي تؤدّيه لصالح “الأبد”.

الرواية تحكي قصصاً كثيرة تتوافد على الحبكة الأُمّ، التي هي صراعُ مَن يحوز الضمير. وبدا أنّ صاحب “المترجم الخائن” (2008)، استمرّ يبحث عن أصغر تفصيل في الحبكة الرهيبة المُميتة التي صنعها، كي يكشفه، كي يُعرّيه، ويعرضه جليّاً أمام القارئ.

سردُ فوّاز حدّاد درسٌ في الكتابة. ببساطة إنّه فنّان نذر أدبه لمعركة عاصفة. لكن ممّا يُمكن للمرء أن يتعلّمه من أدبه تماسُك الحبكة، صلابة المقولة، وإدارته المُتقنة لعناصر الرواية، إذ للجميع بدايتُه، والجميع معقود على نهايته بالطريقة التي تخدم ما أراده الكاتب. وهو هنا في الرواية الصادرة عن “دار رياض الريّس” (2023)، أراد للإنسانيّة أن تنجو في جمهورية الظلام، وعقد لأجل نجاتها وفاقاً بين مجموعة من الأفراد العابرين للطوائف، العابرين للانتماءات ومختلفي الولاءات، وكأنّما يراهن أخيراً على الأفراد؛ كي يُقال نجت بعض الإنسانيّة في جمهورية لا إنسانيّة فيها، وفي زمان لا مكان للرحمة فيه.