لم تتغيّر آليّة الصراع بين الفلسطينيّين والكيان الإسرائيلي، على مدى ثلاثة أرباع القرن، ناضلَ الفلسطينيون على الأرض، لكن تأخّروا في التوجّه إلى الرأي العام العالمي، مع أنّ العرب عرضوا قضيّتهم في المحافل الدولية، لكنّها لم تُحرز دعاية فعّالة على المستوى الإعلامي، بالمقارنة مع ما أحرزته الصهيونية من تراكُم دعائي ضدّ العرب عموماً، لا سيّما بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، شكّلت إدانةً للإسلام والمسلمين، ورسّخت صورة العربي المُسلم كبديلٍ نموذجي للإرهابي مفجّر الطائرات، بينما كانت قد مَنحت، من قبل، المقاومَ الفلسطيني، سمعة المُزنَّر بالمتفجّرات، مُختطف الطائرات، المُلثّم بالكوفية، حامل الكلاشنيكوف، المُهدِّد للسلام في الشرق الأوسط.
اعتنت “إسرائيل” منذ أعلنت قيامها بتصدير صورة الدولة الديمقراطية الوحيدة في بحر من الديكتاتوريات الجمهورية والملكية، باعتبارها بلداً على طريق الازدهار السريع وسط صحارٍ غنيّة بالنفط والفقر والجهل. اعتبرَ الغرب “إسرائيل” جزءاً من الحضارة الغربية، فأسبغ عليها رعايته.
مع اشتداد عصب المقاومة، روّجت الصهيونية أسطورة رمي الإسرائيليّين في البحر؛ تلك اللغة التي يخشاها الغرب وليّ أمورها، فاعتبرَ نفسه مكلّفاً بحمايتها إلى حدِّ التسابق لبذل المساعدات للصهيوني، المزارع الحالم بأرض الأجداد، سليل الهولوكوست والضحيّة الناجية من المحرقة وصورته الحديثة: الإنسان المسالم، العالِم والعبقري، الجامعيّ والمثقّف، على الضدِّ من العربي المُعادي للحضارة، الانتحاري كارهِ الحياة.
كان “طوفان الأقصى” بياناً عملياً كشف نوايا الاحتلال
أسهم الغرب بنشر الصورتين في الرأي العام بواسطة شبكات الإعلام الكبرى وأفلام هوليوود وسيل من إصدارات الكتب عن المأساة اليهودية في الزمن النازي، في مؤشّرٍ على أنّ وجود “إسرائيل” في الشرق الأوسط معرّضٌ لهولوكوست آخر. فبدت دولةً ترتكب مغامرةً حضارية في غابة من الأشرار.
كانت الدعاية تشتطّ، وتخلق وهماً حتى لدى الذين فبركوها، بالإيمان بادّعاءٍ اختلقوه، حتّى أصبحت هذه التصوّرات واقعاً مفروغاً منه، لا سيّما بعدما حقّقت انتصاراً على جيوش ثلاث دول عربية، فكانت “إسرائيل” الطفلَ ذا القوّة الخارقة، والأعجوبةَ التي رعاها الرّب، بولغ بها إلى حدٍّ منقطع النظير، حتّى أنّ العرب أصبحوا يجلدون أنفسهم جرّاء الهزيمة حتى الآن، ويستعينون بها للدلالة على عجزهم الطبيعي.
حتى أنّ حرب الاستنزاف وحرب 1973 لم تُقنعاهم إلّا بالهرولة للاعتراف بـ”إسرائيل”، وكلّما قدّموا بادرة سلام، رفضتها. مع هذا أصبح لها أصدقاء عرب، يشيدون بها، ولا يتوانون عن الترويج لها بدورهم، وهكذا انطلق قطار التطبيع بأمان.
اشتطّت الدعاية الصهيونية وخلقت وهماً حتى لدى مفبركيها
لم يُخلف الغرب وعوده لـ”إسرائيل”، فضمَن تفوّقها المطلق، فلم تعُد طموحاتها أقلّ من تحقيق أحلامها في التوسّع، وسوّغ لها عدوان غزّة لتُطالب بالحدّ الأقصى: القضاء على المقاومة وتهجير الفلسطينيّين.
لم تُصْغِ “إسرائيل” لنصائح أصدقائها العرب، ولم تهتمّ بهم، فجيرانها لا وزن لهم في قراراتها، مع أنّهم لم يُقصّروا في مساعدتها، بفتح حدودهم لها، وإسكات شعوبهم، من دون أي ضغط عليها، باعتبار أنّ أيّ تدخّلٍ منهم لتخفيف الاحتقان قد يشكّل تهديداً لبقائهم، بينما كان الغرب المُصاب بمتلازمة التحيّز الأعمى لـ”إسرائيل” يشاركها في الحرب.
لم تغفل المقاومة الفلسطينية، طوال صراعها مع الكيان الاستيطاني، عن خوض معاركها مع الرأي العام العالمي، في التعريف بالقضية الفلسطينية في الغرب، ما أنتج جهات صارت أكثر تفهّماً لقضية كانت مجهولة ومعقّدة، أصابها الكثير من التحريف. ظهرَ أثر التعرّف إليها بعد عملية السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر. كان “طوفان الأقصى” بياناً عملياً أدّى إلى انكشاف طموحات قادة “إسرائيل” في التخلّص من الفلسطينيّين، وقد تجلّى ذلك في الوحشية الهمجية في قتل المدنيّين وعلى رأسهم الأطفال.
بينما كان الإعلام الإسرائيلي والغربي يعملان على نزع الإنسانية عن الفلسطينيّين، خاصّة في أوساط الجيش، لتشجيع الجنود على الإيغال في القتل دونما تمييز بين المقاومين والمدنيّين، كما لم يقصّر الأميركان بالاستخفاف بحقّ الفلسطينيّين في الحياة، فغضّ النظر عن أعداد القتلى المرتفعة، والحالة المعيشية التي وصلت إلى حضيض المجاعة، ليصبحوا بذلك شريكاً فاعلاً للإسرائيليين بتزويدهم بالسلاح والذخائر، ما يساعد على استمرار العدوان لبلوغ أهدافه. وقد ساندتها أيضاً بالفيتوات في “مجلس الأمن”، وزوّدتها بالمعلومات الاستخباراتية والخطط العسكرية والتكنولوجيا الذكية.
ليس الغرب كتلةً واحدة صمّاء، ففي الغرب نفسه انعكست ردود الفعل في الشارع والجامعات ومراكز الأبحاث وفي عقر الحكومات، والانفكاك ببن السياسيّين والأجيال الطالعة الجديدة إلى حدّ قمعها بالقوّة، ولم تتوقّف سلسلة المتغيّرات في الرأي العام، فوقفُ إطلاق النار في غزّة باتَ تحت دراسة “محكمة العدل الدولية”، وطلب مدّعي عام “الجنائية الدولية” إصدار مذكّرتَي توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع، واعترفت ثلاث دول غربية، إسبانيا والنرويج وأيرلندا، بدولة فلسطين، وكذلك سلوفينيا، وفرنسا التي لم تعد بعيدة عن الاعتراف، كما عبّرت رئيسة وزراء بلجيكا عن ضرورة هذه الخطوة.
ماذا كان ردّ فعل “إسرائيل”؟ تهديد قضاة “المحكمة الجنائية الدولية”، ودعوة أميركا لفرض عقوبات عليها، وبات ما يتردّد في “إسرائيل” بذل الجهود في إقناع دول صديقة بعدم تطبيق أوامر المحكمة.
لم تعُد الحروب والصراعات في كوكبنا تدور ضمن حيّز محدود، ولا أسيرة حدود بلدانها، بل تمدّدت إلى العالَم، كما لم تعُد القضايا العادلة محلّية، ومثلما تُخاض على الأرض في جبهة الداخل، تعدّت إلى جبهة الخارج، تخاطب الرأي العام، باستنهاض همّة الأخيار، فالغرب ليس ذا وجه واحد، وفي هذا الحراك في دفاعه عن الفلسطينيين، يَظهر الوجه الآخر للغرب، ولا مبالغة في أنّه الوجه الحقيقي للإنسانية في سعيها إلى العدالة.
-
المصدر :
- العربي الجديد