عندما أصدرت “اليونيسف” بياناً تقول فيه إنَّ عدد الضحايا الأطفال في غزّة أصبح يُشكّل وصمة عارٍ على ضميرنا الجماعي، أشاحَ العالَم ببصره عن أطفال غزّة، رغم شفقته عليهم. لدى الغرب أسبابه، إذا كان لا بدَّ من القضاء على المقاومة، فلا تمييز بين المقاومين والمدنيّين، بمن فيهم الأطفال والنساء.

بلغ عدد الأطفال الذين استشهدوا جرّاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة ثلاثة عشر ألفاً وأربعمئة وثلاثين شهيداً، في حين قُدِّرَ عددُ الشهداء من النساء بثمانية آلاف وتسعمئة شهيدة. فالحروب لا يمكن ضبطُها، هناك هدفٌ يجب تحقيقه، ولا مفرَّ من القبول بذرائع تُسكِت أيّ صوتٍ يدعو للنظر إلى الجانب الإنساني، وإنكاره بكافّة الوسائل، ولو بالكلام عن الإنسانية، طالما الإنسانية نفسها فقدت معناها.

هذا ما يُدعى بأولوية الحرب على البشر، وانتقل إلى المجال الطبّي، فالحرب مستمرّة في المجال الأحوج إلى الأخلاق، حيث يُمارس الأطبّاء دورهم في العلاج. لن نتطرّق في هذا المجال إلى الحرب على مستشفيات غزّة، أو لاقتحامها وإخلائها، أو خروجها عن الخدمة جرّاء نفاد الوقود والمستلزمات الطبّية، ولا إلى الانهيار الكامل للمنظومة الصحّية. كمُوجز يُمكن القول إنَّ الإحصائيات تؤكّد قتل ما يقرب من خمسمئة طبيب وعامل طبيّ، لم يلفت مصيرهم أي اهتمام.

عن أيّ أخلاقيات طبّية نتحدّث في ظلّ حكومات ترعى الإبادة؟

سنتطرّق إلى حوار دار في “إسرائيل” عن الأخلاقيّات الطبّية، حول معاملة المعتقلين الفلسطينيّين، بناءً على شهادة عددٍ ممّن عملوا في المعتقلات، كانوا شهود عيان على تعرّض المعتقلين للتعذيب والإهمال الطبّي والاحتجاز في ظروف قاسية، والحرمان من الحركة والكلام. اللّافت أنَّ التعذيب لم يكن لجمع المعلومات الاستخبارية، بل بدافع الحقد والانتقام.

تصدّى لهذه الاتّهامات مكتب الأخلاقيات المهنية في “الهستدروت الطبّية”، ودافع عن تعامله معهم بأنّه، حتّى لو كان يحقّ لـ”مخرّبي حماس” العلاج، لكن ليس المتساوي مع غيرهم من المعتقلين، مع الاعتراف بأنّه يحقُّ لأي شخص الحصول على العلاج وواجب الاحترام دون صلة بانتمائه السياسي.

لكن ما يحرمهم من استحقاق العلاج، وصفهم بـ”مخرّبي حماس”، وهو ما يُدينهم فعليّاً، كأنّه تمّت محاكمتهم وإدانتهم، ولو كان مخالفاً بشكل مُطلق للقاعدة الأساسية للأخلاقيات الطبّية بالواجب الذي يُملي الحفاظ على الحياد الطبّي، فحتّى لو ثبتت الاتهامات والإدانات، لا يجب أن يكون لها أي تأثير على العلاج.

هذا الوصف والإِدانة المُسبقة، أدّى إلى ألّا يُسمح للمعتقلين بالحركة، وأن تتمّ تغذيتهم بواسطة أنابيب، وقضاء الحاجة في الحفّاظة. لماذا؟ لأنَّ سلامة الطاقم الطبّي فوق أيّ اعتبار أخلاقي. هذا التذرّع بالسلامة يتجاهل بدائل أقلّ ضرراً ولا يأخذ بالحسبان خطورة وضع المعتقل الصحّي المعصوب العينين والاستخدام الزائد “للتكبيل المبالغ فيه”، خاصّة أنّه مستمرٌّ، والإصابات الناجمة عنه أدّت في بعض الحالات إلى بتر الأطراف؛ وهي عملية يقوم بها أطبّاء أحياناً غير مؤهّلين، كانت بالنسبة إليهم مجالاً للتدريب دونما مساءلة على الإهمال. أمّا بشأن أن تكون عيون المعتقلين معصوبة دائماً، فكانت تجاهلاً فاضحاً لتوجيه “منظّمة الصحة العالمية”، التي أكّدت على عدم شرعية فحص المعتقلين وهم معصوبو العيون.

هذا يحدث في واقع خطاب عام في “إسرائيل” متجرّد من الإنسانية، يسمح بصدور تأكيدات لحكومة الكيان الإسرائيلي بأنّها تتصرّف وفقاً للممارسات والقانون الدولي، من دون تدقيق ولا محاسبة، وهي تأكيدات تُبطن التهديد، ما يجعل الطواقم الطبية تخشى الإبلاغ عنها بشكلٍ متعمّد، خوفاً من الإضرار بوظائفهم ومصدر رزقهم، فالطبّ تخلّى عن أخلاقياته.

وهذا يحدث أيضاً في مناخ عالمي تقوده حكومات غربية فقدت الاتجاه، وتعطّلت لديها بوصلة الإحساس بالعدالة. ولقد كان من العسير، منذ بداية الحرب إدراك إلى أين تتّجه، طالما زعماء العالَم يقولون الشيء وعكسه، فبينما يُظهِرون الحرص على أرواح المدنيّين، يحرصون أيضاً على استمرار الحرب، تلك إرادة “إسرائيل”، ولا يستطيعون رفضها، فالحجج المُدّعاة؛ “الإرهاب” و”أمان الكيان” و”ضمانة حياة الإسرائيليّين”، وكلّها خارج موضوع العلاج الطبّي.

يقال إنَّ هذا واردٌ في الحروب، ومن السذاجة الاعتقاد بحروبٍ نظيفة، لكن ليس الأمر المطالبة بحرب نظيفة، وإنّما التقيّد بالحدِّ المعقول من القانون الإنساني، وعدم امتداد القتل إلى أسرّة المرضى، إنَّ ممارسة التعذيب على أسرى مقيّدين لن يوصلهم إلى السرير ولا إلى المستشفى إلّا مقيدين أيضاً.

ورغم ما تثيره من التعدّي على الأخلاقيات الطبّية، لا يجري التراجع عنها، إذ لكلِّ مطالبة إنسانية، ادّعاء إسرائيلي ينسفه، فالإسرائيليون يهرفون كثيراً بالإنسانية، لكنّهم بلا أخلاق، وهو ما يحوّل النقاش إلى حرب كلاميّة تنضح بالمراوغة والكذب والتهرّب من الأسئلة الصعبة، ما يجعل منطق الإبادة الجماعية هو السائد في جميع الظروف، طالما العدالة لا تصيب الفلسطينيّين إلّا بالاتّهام المسبق والإدانة المُتوقّعة.